عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

إبراهيم قاسم يوسف - لبنان

عاش السلام + بطاقة


إبراهيم قاسم يوسفعاش السلام

انطلقت من حظيرة الدّواجن، تسلّقت الحائط، بلغت الطابق الثاني، وصلت إلى الشّرفة، تسللت من الشرفة إلى بيت العجوز، واختبأت في المدفأة.

العجوز تعيش بمفردها، بعد أن تزوجت حفيدتها، وتركت لها قطّا يؤنس وحدتها، ذلك أنّ زوج الحفيدة يهيم بزوجته، لكنّه لا يطيق القطط.

كانت الحفيدة تعتني بالقط، تطعمه الحليب واللحم المسلوق، وتطهو له السّمك، وأحيانا تخصّصه بالأطعمة المعلّبة، وقضامة اللحم المجفف. لم تكن حاله حال باقي القطط الزّريّة الضّالةّ في الشوارع والأزقّة، تلك الّتي لا تتردد أبدا في التهام الحشرات، بل كان نظيفا مدلّلا يشتهي المرء أن يلامس صوفه برفق ورقّة. إلى ذلك كلّه كانت الحفيدة تزور الطّبيب البيطري مرّتين في السّنة، تلقّح قطّها وتطمئنّ على سلامته، وتستشيره كلّما دعت الضرورة، تستعمل في تنظيفه مستحضرا من البلسم والصّابون المعطّر، مرّة في الشّهر على الأقل، أمّا سريره فناعم كالحرير. جملة القول أنّ عنبر وهذا اسمه، كان أوفر حظّا من بعض بني البشر.

فيما مضى تعوّد عنبر القطّ النّجيب، أن يوقف جرس السّاعة المضبوط على السّادسة، في صباحات أيّام الآحاد، عندما تكون الحفيدة في عطلتها الأسبوعية لكي تستغرق في نوم أطول وأهنأ.

غيّر عادته في التّدخل لإيقاف الجرس، الّذي توقّف أصلا عن الرّنين، بعد رحيل الحفيدة، ثمّ هجر سريرها، فصار يأوي إلى سرير الجدّة، ينام عند قدميها، وبقي أمينا على صداقته مع الفتاة ، فكان يتعرّف على وقع خطاها في الخارج، من الموسيقى الّتي يعزفها حذاؤها على الأرض، وينتظرها على عتبة الباب يتمسّح بها كلّما قدمت تزور جدّتها.

في تلك الليلة، بدا القطّ مستنفرا على غير عادة، يجوب البيت غرفة غرفة يتوقّف في الزوايا، يشتمّ الروائح، ويرهف سمعه، كأّنما يبحث عن ضالّة ما.

في المساء جلست الجدّة إلى التلفاز، تتابع برنامجها المفضّل، وأحضرت معها لمزيد من المتعة، علبة (البسكويت) التي حملتها لها حفيدتها في زيارتها الأخيرة.

دهشت الجدّة وهي تباشر فتح العلبة، ذلك أنّ يدا غريبة عبثت بها، فحوّلت بعض أقراصها مسحوقا ناعما، وضعت نظّارتها، ودقّقت في العلبة، فإذا هي قد قرضت من جانبها، تعجّبت، فكّرت قليلا، وضعتها جانبا، وراحت تستطلع الخبر، لم يستغرق الوقت طويلا حتّى وجدت الدّليل، وتأكّدت أنّ فأرة تشاركها السّكن.

اطمأنت الجدّة إلى كفاءة الهرة ومهارتها في تعقّب الفئران والتّصدي لها والقضاء عليها، وهي ستقع حتما بين مخالب القط عاجلا أم آجلا.

رمت العلبة في صندوق القمامة، وعادت تتابع برنامجها خليّة البال، مطمئنّة الخاطر. لم يكد يمضي على جلوسها لحظات قليلة، حتّى لمحت لومضة سريعة ما عزّز شكّها باليقين بوجود الفأرة الضّيف. مع هذا فقد اطمأنّت وعقدت الأمل على القط الذي اعتنت به ودلّلته لهذه (الحشرة)، فالقط سيوقع حتما بالفأرة المتطفّلة.

توالت الأيّام، والفأرة تسرح في البيت وتمرح، والجدّة لم ينقطع رجاؤها، في أنّ القط سيؤدي رسالته في يوم قريب.

راهنت الجدّة ما فيه الكفاية على قدرة القط وكفاءته، لكنّها أصيبت بالخيبة، وبدأ اليأس يتسرّب إلى نفسها بعد انقضاء أسبوع أو ما يزيد، لذلك كان لا بدّ لها من اللجوء إلى وسيلة أخرى تتخلّص بها من الفأرة العصيّة، كان هذا همّها وهاجسها.

نصبت لها شركا لاصقا، وزّعته بعناية في أرجاء المنزل وانتظرت. في اليوم التّالي مباشرة، كانت دهشتها مفاجئة وكبيرة لأنّ الفأرة علقت في الشّرك في ليلة واحدة، والقط عجز عن النّيل منها في أيّام.

كانت الفأرة ما تزال على قيد الحياة، كلّما تحرّكت وحاولت الإفلات، كلّما ازدادت التصاقا بالشريط. لم يكن القطّ مستنفرا لمنظر الفأرة الأسيرة، بل كان يجلس قبالتها ساكنا يرصدها وهو في غاية الهدوء، كما لو أنّ الأمر لا يعنيه في قليل أو كثير. لم يجرّب مخالبه، لم يثب ولم يتحفّز للوثوب، كأنّما تبدّلت غريزة الهرة، وانتفى التمييز بين الأجناس، فساد السلام بين القطط والفئران.

وهكذا طوت العجوز الشرك اللاصق على الفأرة وداستها، فأجهزت عليها بالموت الرّحيم. لكنّها لم تتخل عن القط.

بطاقة

العين مرآة صادقة للنّفس، وعيناك يا سيّدتي مزيج من الأزرق الهادئ والأخضر الخفيف. صافيتان كأزهار البنفسج، عميقتان عمق المحيطات، وسحرهما لا يقاوم.

D 1 تشرين الأول (أكتوبر) 2008     A إبراهيم يوسف     C 0 تعليقات