عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

أمل النعيمي - الأردن

اللعب في الوقت الضائع


أمل النعيميالكرة كانت في ملعبك، لم تحسني اللعب، و...

كم مرة سمعت هذه الجملة كتعقيب متواضع على مشكلتي!

المشكلة أني ما زلت أعيش المشكلة وأحاول التعايش معها، والمشكلة أنني لم أسأل قط عن ماهية اللعبة التي تلعب الكرة فيها كل هذا الدور الجليل، هل هي كرة القدم؟ السلة؟ كرة اليد؟ أم الكرة الأرضية ولعبة الدنيا؟

والمشكلة أنني كنت وما زلت أرفض أن تكون الكرة قدرا في الفوز والخسارة حتى من خلال الألعاب الرياضية. والمشكلة أن تلك الجملة أصبحت تترد كثيرا في الأوساط الرفيعة ووسائل الإعلام مما اضطرني للاستسلام إلى فاعلية سحرها. والمشكلة القصوى أنني لست ممن اعتاد البوح بأوجاعه. وأول مرة، أول مرة تحتلني مشكلة إلى درجة اللجوء إلى من يحررني منها تدخل الكرة مرمى حياتي.

أعرف إنسانة تؤمن بمبدأ المساواة بين الرجل والمرأة إلى درجة تجعلها تمارس بعض ما يعتبره الرجال حكرا لبودقة فحولتهم. طبعا كان مستحيلا أن أحدثها عن مشكلتي لأنها طافحة حتى الغثيان بسطوة الرجال. وتحت مظلة الكذب الأبيض ادعيت أنني قررت خوض تجربة المساواة تلك والانخراط في فريق يمارس لعبة كرة القدم. وبعد رحلة شاقة في أمهات الكتب للتعرف إلى طقوس اللعبة توكلت على الله ونزلت إلى الساحة. أعضاء الفريق الخصم كلهم رجال، وفريقنا ولا فخر نسائي حتى النخاع.

أحسست بارتباك شديد وصديقتي اللدودة مدربة الفريق تدفع بي إلى الملعب الذي يعج بالحضور. صافرة الحكم: بدأت المباراة، الكرة تتناقلها الأقدام، ترتفع راية الحكم: آوت، الكرة خارج الملعب. إحداهن ترفع الكرة بيدها وتمررها إلى زميلتها. أحاول استرجاع ما هضمته من أصول اللعبة لكنني أجد نفسي أفكر في استدارة الكرة ومدى الإجحاف الذي يصيبها عندما تركلها الأقدام، والفرق بين ارتفاع تفرزه ركلة قدم وارتفاع تحتضنه الأيادي.

صافرة الحكم: تسلل. اللاعبات يتجمهرن حول مدربة الفريق والحكم يوقف اللعبة لفترة لا أدري مداها. أحس بمدى تفاهتي وأنا أناقش ذاتي: هل يحتاج التسلل هنا كل ذلك الاهتمام؟ كم من الطفيليات تتسلل إلى خلايا أنفسنا ومنعطفات أيامنا بدون استئذان ولا أحد ينبس ببنت شفة؟ لا أحد. آه أيتها الكرة! لماذا استغرق لقاؤنا كل هذا الوقت من نزيف السنين والأرق وأكوام من لماذا؟

صافرة الحكم تعلن استئناف اللعب، اللاعبات في حال استنفار، هناك خطر. و... ضربة جزاء. الهدف مكشوف، حارس المرمى مستأسد، وهدافة الفريق تحاول التصويب في الصميم. أنظر كالبلهاء وأتساءل: أي عدل هذا الذي لا يدافع عن المستهدف فيه سوى فرد واحد فقط؟ أسترجع أصول اللعبة، هل كانت ضربة الجزاء ناتجة عن خطأ مقصود؟ وهل هناك خطأ مقصود؟

أجل. يطالعني وجه حكيم من الماضي السحيق بلحيته البيضاء وسحنته الدافئة المهيبة، يبتسم لي بود ويخاطبني عبر التخاطر:

حاذري أن تسمي الخطأ غير المقصود يا ابنتي خطأ. حاذري. أتذكر مشكلتي المزمنة. ترى أي تعبير يصف الخطأ المعنوي الجسيم الذي لحق بي؟ الحكيم يقرأ أفكاري ويأمرني بالاستمرار في اللعب لأني بعد ذلك سأكون الحكم. أقرر ضربة الجزاء والجزاء ... ياه! شعور مريح يعتريني ربما هو أقرب إلى الانتقام وكلمات شيطانية، ضربة، وجزاء. هه. ولكن مم؟ من شبكة خيوط وكرة؟ شبكة الخيوط تذكرني بالنساجين.

الحكيم يقول: هناك صنف من البشر بارعون في النسج والحياكة، شباك هؤلاء لا تهزها كرة وهم يصيبون ولا يصابون.

لكنني أحسن حياكة الصوف والتطريز وأعمال يدوية أخرى كثيرة.

الحكيم يقرأ أفكاري، الوجه الودود يعقب: لكنك لا تفعلين ذلك في الوقت المناسب. تعلمي من جديد والكرة تظل في ملعبك.

صافرة الحكم تعلن انتهاء الشوط الأول، تعادل بدون أهداف. صديقتي اللدودة مدربة الفريق تختلي بي وتوبخني بعنف:

لقد فعلت المستحيل لأقنعهن بانضمامك إليهن. ما بك؟ لولا أنني من أشرف على تدريبك لقلت...

أبتلع ريقي والإحساس بالفشل يغرقني، هل أنا بليدة إلى هذا الحد؟ صديقتي اللدودة تنبهني:

لدينا فرصة ماسية، حارس المرمى الخصم، إنه يرمي لك الكرة. يقدمها على طبق من ذهب والمفروض أن يبعدها عنك، تذكري أصول اللعبة والحواشي والسطور وما بين السطور.

ولكن لماذا؟ الحكيم يقرأ أفكاري مرة أخرى، لا يعجبني التقطيب الذي يعتري محياه كأنه يقول: إن كيدهن عظيم.

أنظر إليه ووجهي أكثر تقطيبا: أنحن كلنا كذلك يا سيدي؟ البسمة الحنون تعود إلى وجهه، يقول:

ما زال هناك الشوط الثاني والوقت الإضافي إذا استمر التعادل، و...

صديقتي اللدودة تجرني إلى الملعب مرة أخرى، صافرة الحكم، بداية الشوط الثاني، أنظر بحذر إلى وجوه اللاعبين وإلى أقدامهم، يقولون إن أقرب طريق إلى قلب الرجل معدته، هل أصبح أقرب طريق إلى قلب المرأة كرة؟

إنها تتحرك باتجاهي، الكرة، حارس المرمى الخصم الذي نبهتني إليه صديقتي اللدودة هو الذي أرسلها إلي، ملامحه عادية ولكن أنا خائفة. خائفة من الكرة وقدرتها على التدحرج، وخائفة لأنها في ملعبي. أهرب منها وتلاحقني كالقدر. زميلتي تقطع المغناطيسية الكروية وتناور خصومها.

صافرة الحكم: ضربة حرة مباشرة. تصاب ذاكرتي بنشاط مفاجئ وهي تتذكر أن هناك ضربة حرة غير مباشرة، الشرود يحتلني مرة أخرى وشيء في يحاورني:

ترى، عندما يقرر الإنسان توجيه ضربة، أيهما أكثر إيلاما الضربة المباشرة أم غير المباشرةْ؟ سذاجتي تغضب الحكيم: آه يا بنيتي، الضربة المباشرة قد تكون تصرفا شجاعا لكن الأخرى يختفي وراءها ألف اسم ووصف وقناع.

أتذكر قول الشاعر:

احذر عدوك مرة

واحذر صديقك ألف مرة

فلربما انقلب الصديق

فصار أقرب للمضرة

ما أسهل أن نرفض فكرة أو قولا أو معنى! وما أصعب أن نجد أنفسنا في زوبعة ما رفضناه! تعيدني تصويبات الكرة وبإلحاح غريب من حارس المرمى الخصم تجاهي إلى حالة اليقظة والحذر. مدربتنا تطلب الاختلاء باللاعبات لكنني سرعان ما أدرك أنها تقصد أن تختلي بي، دبق التملق والتعرق يصيبني باختناق مخيف، تنظر إليّ وكأنها تراني لأول مرة، صوتها يخترقني:

يا صديقتي الحبيبة، يا فتاتي الذهبية، يا... مستقبل نساء العالم متوقف عليك. عباراتها الرنانة تنطلق كالسهم، والحكيم ينظر إليّ بإشفاق.

أنقذني أتوسل إليك، إنها تتحدث عن انتهاز الفرص والحظ الذي لا يطرق الباب إلا مرة واحدة وكل اللاءات التي تسبق صوتي حين يدور الحديث عن مثل هذه الأمور، الحكيم صامت واللعبة تستأنف، يجب أن أفعل شيئا لأخرج منها.

ما رأيك يا سيدي أليس ذلك أفضل؟ إنني لاعبة رديئة جدا سأفتعل شيئا يخرجني منه، أفضل من الانتظار حتى تستبدلني المدربة أو يطردني الحكم بغير وجه حق أو أعاق إعاقة لا شفاء منها، أو...

الحكيم يصر على الصمت، أركض باندفاع غريب وأمسك بقميص أحد اللاعبين، أمد قدمي معرقلة اندفاعه، يسقط أرضا وهو يتلوى من الألم، حارس مرماهم وكابتن الفريق باللغة الكروية يتدخل، فجأة أجد حجرا لا أدري من أين أتى يتوسد أرض الملعب، الحكيم ما زال صامت، حارس مرماهم يبرر والحكم يبرؤني ويتهم الحجر.

الحكيم يتكلم أخيرا: يا ابنتي، لعبة الخطأ أصعب من تصوراتك، يجب أن تتعلمي من تطارد الحياة ومن تطرد وكيف ومتى.

هذه المرة لا أريد أن أعطي نفسي لحظة تفكير أخرى، حارس المرمى الخصم يصوب الكرة نحوي، أمسكها بيدي ضاربة عرض الحائط كل الأصول والقواعد والقوانين، أحس بأني متعبة، متعبة جدا رغم لعبي العقيم، أعطيه الكرة بيدي. أصوات الحاضرين تختلط كيوم الحشر بين مؤيد ومعارض، الحكم يصاب فجأة بعمى الأحداث ويعلن انتهاء الوقت الأصلي للمباراة: تعادل بدون أهداف.

صديقتي اللدودة تختلي بي وهي تكاد تركع تحت قدمي. أنت أملنا الوحيد أرجوك، مازال هناك الوقت الضائع في الشوط الثاني. يجب أن يفوز أحد الفريقين والفوز يجب أن يكون من نصيبنا، ألا ترغبين في أن ترفع بنات جنسك راية النصر، و...

لا أدري كيف وجدنني: لاعبات الفريق النسوي، وكيف امتدت أياديهن إلي لتحولني إلى كرة بين أقدامهن. تداخلت الألوان أمام عيني وعندما عاد وضوح الرؤيا وجدت نفسي على فراش وثير وحولي طاقم طبي. صديقتي اللدودة تربت على ما يظهر من شعري بين الضمادات، وجه الحكيم وملامحه المتجلدة، أحاورها والأسف والوهن يغلفا نبرات صوتي:

أنا آسفة لم أقصد قط ما جرى، إنني لم أنس بعد أني امرأة ولم أنس مشكلتي التي لا تعرفينها.

تقاطعني ونبرة صوتها غارقة في خجل أنثوي لم أعهده فيها إطلاقا: اسكتي أرجوك، لاعبات الفريق دفن كل شعاراتي في الوحل، عاجلا أم آجلا ستعرفين، أن ما جرى...

صوت الحكيم يهيمن على صوتها: لاعبات الفريق شعرن بـ... ماذا أقول؟ الغيرة. اعتراضهن وغضبهن لم يكن بسبب عدم تحقيق هدف بل لأن الكرة كانت في ملعبك رغم أن ملعبكن واحد.

صوت صديقتي اللدودة يدوي مرة أخرى: لا تهتمي سأغير اللاعبات وأجعلك كابتن الفريق وستربحين ونربح، أنا متأكدة.

أشفق عليها من نفسها وعلى نفسي من نفسي. سألها: كم كان الوقت الضائع في اللعبة؟

تجيبني بخيلاء: يا عزيزتي انس هذه اللعبة وفكري باللعبة القادمة. أقاطعها بإصرار: لا، لن ألعب إلا في الوقت الذي ضاع في هذه اللعبة، لقد تعلمتها جيد، اطمئني يا رائدة المساواة.

وجه الحكيم يختفي رويدا رويدا، وسؤالي المتسول يتمسك به بلا جدوى. ترى هل هناك أي معنى، أي فرح، لأي نصر في لعبة، أي لعبة عندما يعتاش النصر فيها على الوقت الضائع؟

D 1 أيلول (سبتمبر) 2009     A أمل النعيمي     C 0 تعليقات