عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

غـالـيـة خـوجــة - سـوريـة

جـراحـي جـمـرات الجـحيم


غالية خوجةليس كل العالم أنا، لكنني أنا كل العالم.

كطفلة فلسطينية تبكي بين الأنقاض، أنا الآن هنا، كعادتي، أحترق مع جراحي وجراح الكلمات. لا العيد يعرفني ولا لحظات الفرح. وحدها الدموع والأحزان لا تجهل طريقها إليّ حتى لو أصابها العمى. لماذا كل سواد العالم اتفق، في زمن لا يتفق فيه اثنان، على أن يشتعل في قلبي؟ الحريق يرتفع كما تفعل النار في جهنم، ثم يتلون ليصطدم بحياتي. أنصهر دائما كأنني الأبدية تذوب في اللغة.

أستدير فـيّ. تجرفني ذاتي إلى ذاتها. موجة لهب تخطفني، وموجة لهب تشكـّـلني، وموجة لهب تصير أنا. تتشاكل النيران كالأسئلة مع ألحان بيتهوفن وترتفع اللحظة عن الزمن زرقة وأرجوانا وبنفسجا سينبت، يوما، من قبري مع كلمات تنبت خضراء، حمراء، زرقاء، بيضاء. لحظتها، ستتساءل السماء:

"مَنْ تلك الغريبة الراقدة هناك؟"

ستعرفني الغيوم وتوشوش العصافير: “تلك هي التي ماتت في الحياة. "

منذ تلك اللحظة، ستغيّر العصافير لهجة غنائها. سيسمعها العابرون فيبكون حتى تفيض الأنهار.

أحدّق حولي. كل شيء سراب يتبع السراب. لا أثر لأي فان هنا. إذن، لماذا يصطرعون؟ وعلى ماذا يتقاتلون؟ ويؤذون بعضهم بعضا؟

أحدق ببصيرتي في السماء فأرى نورا ينسكب عليّ كالمطر. تختلط معه دموعي وأمنياتي وأحلامي التي ماتت وتلك التي على قيد الحياة.

ذاكرتي قطعة فحم لا تغادرها النار تكوي روحي. تتكاثف اللسعات وتسألني:

ترى كيف هما؟ أ لم يشتاقا لي؟ هل من المعقول ألا يتذكر الطفل أمه أبدا؟ أم أن ظروفا تائهة تأخذهما معها إلى دوامات الضياع؟ ليس ذنبي أنني ولدتُ من اللغة. ليس ذنبي أنني أردت متابعة الدراسة والكتابة. ليس ذنبي أنني لم أتفاهم معه. ليس ذنبي أنه لم يفهمني. ليس ذنبي أننا افترقنا. فهل أستحق أن أكون في أقصى النسيان؟

الألهبة بين مدّ وجزْر. والنار أنا. أتباعد في نفسي، أتقارب، لا فرق. فالفضاء ذاته يدور. لماذا يئدون روحي بالظلم والظلام؟ إلهي، أنت تعرفني كما تعرف "مريم"، فلماذا مصير مَنْ هي مثلي تنسجه ألسنة الناس الناسين وجودك؟

إلهي جحيمهم أشد قسوة من جحيمك، فانتشلني برحمتك إليك، أنا المهاجرة، دوما، إليك. إلهي، أنت تعرف صدقي، لذلك تمدني بهذه البصيرة. أنت تعلم عذاباتي وجروحي وشقائي، لذلك تمدني بالصبر والقوة والاستمرار. أنا، هنا، في جوف جهنمهم، لكنني في آخر رحمتك. من أنزفتي صارت الشمس. ومن آلامي تكوّن القمر. والسماء الممتدة في الكون هي روحي الراجفة بذكرك.

آه، يا ربي، أنت تعلم كيف أحترق مع الكلمات لنصير هذا السواد. وتعلم أن أزمنتي لا تقاس إلا بالإبداع. فلماذا يحدث ما يحدث؟ لماذا جزاء الصدق والإخلاص والعمل أن أحيا في النيران؟ أحدق في العماء أكثر، فأرى الماضي يولول: صوته وصوت أخته يزلزلان البيت حتى يتهدم على رأسي ورأس الطفلين. إلهي، يريدونني آلة للطبخ والتنظيف وتنفيذ الأوامر. وأنا أريد أن أحيا إنسانا لم تـُـنقص من كرامته وحريته كتبك. قلبي ما زال، وسيبقى، معهما. أنا المحترقة من العتمة.

ومضيت إلى حياة أخرى، أو هكذا توهمت. أصرَّ على الحب والزواج. فتأملت فيه ما حُـرمته في حياتي من حب وحنان وإنسانية. مضى العمر معه مستغيثا من اللهب باللهب. حلمت به شاعرا مختلفا، على الأقل يقدرني كإنسان. وحدث ما حدث. كان جحيمه أشد جحيما من جحيم المجتمع.

النيران تصهرني حتى التلاشي. والزمن الماضي يقفز في رأسي وعروقي حافرا مسالك جديدة لجراح النار. اعتدت أن أحتمي من احتراق في داخلي باحتراق في داخلي. أعماقي أشد حرارة من خصلات الشمس. أجرب أن أتملص من فجوات اللهب، لكن الموجات تشدني إلى جمرها. أستغيث. لا أحد. أستغيث وليس في الفراغ سوى صدى حرائقي. الصدى يصطلم بالصدى. أتلاطم فيّ.

أتسع أكثر من الكون. أسبح، أرفرف، أعلو. لا شيء أبعد مني سواه. أعلو لأرى وجهه الكريم. النور حبات مطر ومعان متجلدة تتدافع لتذوب في أنزفتي. الذوبان يتكاثف متحولا ورودا ملونة وفراشات لا يراها إلا الأنقياء. وأنا نيران تفور وتغلي على بياض الورق.

كطفلة فلسطينية أحلم بثياب جديدة، بحلويات، وبورق وكتب. وكأي إنسان بريء على هذه الأرض أحلم. أحلامي لهب يحرقني في زمن ازداد سوادا. رائحة روحي خضراء في الأعالي. بعدي، ستندلع البراكين، تحزن الطيور، ويصير لون الأشجار أسود. بعدي، ستندم أمة أدمنتْ على التضحية بأجمل ما وهبها الله. ألا هل بلـّــغت؟ اللهمّ فاشهد.

كرست حياتي ومماتي من أجل النور علّـه يفتح ثغرة في ظلامكم. فإلى متى تفضلون الانزواء مع الظلام في الظلام؟ بعدي، ستردد الأكوان:

ليس كل العالم أنا،

لكنني أنا كل العالم.

حينها، ربما يخبركم النور أن كلَّ نور استعار صوتي.

D 1 كانون الثاني (يناير) 2010     A غالية خوجة     C 0 تعليقات