نوزاد جعدان - سورية
أغنية التسكع
الموسيقى خافتة الليلة، لمْ تدقّ الساعة الثانية عشرة بعد، فاليوم هو عيد رأس السنة وفرحان على معدة خاوية بقدميه النحيلتين يجلس تحت ظل شجرة تقيهِ من رذاذ الوابل، يفكر تارة بماذا أذنب ليحيا كما تحيا الماشية، لا يملك شيئاً ليعيش في سبيله أو غاية ليموت في سبيلها.
في ذروة تفكيره هزّ صوت انفجار وصراخ وهتاف مضجع فرحان، فهاهم البشر يحتفلون بميلاد عام جديد ووفاة عام قديم، كم أنتَ سخيف أيها الإنسان!
ردد في خلده وقام من مكانه ليتسكع كعادته، تقدم وتأمل أشجار الميلاد الجميلة القد ودقّق في الألعاب النارية التي تحمل في ضوئها وهجاًً ووميض حلم، فكر كم يدفع الأغنياء ثمن فرحهم للحظات.
مرّ من المحلات المغلقة وحوانيت الشرب، وتأمل المطاعم الفارهة والركب والأفخاذ العارية، أفخاذ السيدات وأفخاذ الدجاج فالاثنان لذيذان.
جلس القرفصاء على رصيف يواجه محلات الأغنياء، فهو يعشق المشي هناك وحدّث نفسه:
آهٍ يا فرحان! كم تستهويك رائحة عطور النساء وكم تؤرقك! وكم يحرقك المرور أمام رائحة اللحم اللذيذة دون أن تتذوقها ولكن شمها ممتع أيضاً، فربما تسحبها دخاناً تمطر عليك غداً.
يمضي فرحان والألعاب النارية تفتح نوراً في السماء فلا قمر الليلة، ثم يجلس مرة أخرى متردداً على الرغم من أنه لا يمتلك شيئاً ولكن له قرار التردد، ركبتاه تؤلمانهِ فيبني من الرصيف كرسياً ومقعداً ويشرد في النجوم التي لم يعد من المستطاع تمييزها عن الألعاب النارية، تذكّر نجوم قريته كم هي بريئة وشجاعة.
في شوارع الأغنياء تجد مختلف أنواع المجاملات والسيارات الثمينة والأقنعة التي تلوّن الوجوه وبعض الآمال التي تدخل في الجيب.
يزداد جوع فرحان كلما خطا خطوة، فلا شيء يملكه إلا جهاز راديو صغير يعلقه على حزامه، وقد اشتراه منذ زمن ليسمع منه الأغاني، الموتُ أهون له من أن يبيع شيئاً يقويه في المحن، ولكن حتى لو أراد بيعه سيتهمه الحانوتي بالسرقة وسيسجن بعدها ولذاع صيته بالحرامي وبالنسبة لفرحان لقب المتسكع أشرف من الحرامي.
نال الشرود مرة أخرى من فرحان ولكن ما أيقظه لعبة نارية ضربت رأسه فاحترقت قبعته، شكر ربه لأن رأسه ليس حاسراً، ثمَّ أخرج نصف سيجارة وجدها على طرف الطريق، فبللها بلعابه ونفثها وقبل انتهائه منها غرز فيها إبرة كي لا تحرق شفتيه، والمطر غزير يبلل ثيابه الخارجية أما الداخلية لم تتبلل ففرحان لا يعرف ما معنى ثياب داخلية، أما الوابل فشيء تعلم عليه منذ زمن فالثلج أمه والمطر أبوه والبرد إخوه، وقف أمام مطعم ككلب جائع لم يعره أحد اهتماما، أخفض حاجبيه وابتسم ابتسامة غبية لعله يشفق أحدهم عليه وما من أحد التفت إليه، العالم كرة مدببة يا فرحان إلى أين تمضي؟
تابع مسيره إلى المجهول، رأى دورية شرطة تقتات وتحرس في يوم العيد، عندما لمحها هرب منها لحقّه شرطيان بوزنين ثقيلين، فر فرحان بجسمه النحيل فهو بالفطرة يملك جسماً نحيلاً لا يحتاج إلى تمارين لياقة كما يفعل الأغنياء، فكيف سيكون جسم من لم يذق طعم اللحم لا في الأفراح ولا في الأتراح، وصل بفراره إلى حارة الفقراء والفقراء يغدقون الأموال الكثيرة على طعامهم الشهي وما يهمهم سعادتهم ولكنهم لا يشعلون النار أبداً. لا يشعلونها.
ما زال الشرطيان يتتبعانه فقفز فرحان من على سور أحد البيوت، وتسلل خفية اصطدم بقيثارة ونوط موسيقية وطبلة وأوراق مبعثرة هنا وهناك وصور شعراء وفنانين معلقة على الجدار، والصمت يخيم على المكان فقد توقفت المفرقعات وانتهت مراسم جنازة العام الماضي. فان أيُّها الضجيج. سرمديٌّ أيها الصمت.
وصل فرحان إلى المطبخ وشكر ربه، فتح باب البراد فوجده خاوٍيا إلا من بعض الجليد، لعن حظه العاثر لأنه اقتحم بيت شخص أشد عوزاً منه.
التفت وراءه فرأى رغيفاً وحيداً من الخبز يتربع على الطاولة، اقترب ليتناوله فسمع صوت غناء يفتح دروب الأسى:
قدْ كنتِ كلّ آمالي
بدقيقةٍ تلاشتْ
صارتْ سراباً
بكبسةٍ من خاتم
أمستْ تراباً
عنجهيٌّ سارقٌ لأحلامي
فأيُّ الرواية هذه
لصوصٌ أبطالُ القصةْ
فآهٍ يا آلامي
وآهٍ يا آلامي
وضع فرحان الرغيف جانباً وابتلتْ عيونه بالدموع، ففرحان عاطفي من الدرجة الأولى نشأ على مدح جمال القمر وشكر الشمس على شعاعها الجميل، وقف أمام الغرفة التي بدا منها الصوت، وغدا يبكي كالأرامل في محراب الحزنِ.
اقتحم الغرفة على المغني وهو يصرخ: كفى لقد قتلتني، سار الرعب في جسد المغني وقام برمي المنفضة على رأس فرحان فأطاحته أرضاً، الدماء تسيل من رأسه، كم سيتحمل رأسك يا فرحان!
استغاث فرحان قائلاً:
"لستُ بسارق يا سيدي، أنا هنا لأني أعجبت بصوتك الشجي وآلمني غناؤك فأردت معرفة قصتك."
"كيف تدخلُ بيتي عنوةً؟ إن لم تكن سارقاً فمن أنت؟"
"لستُ سارقاً فالسارق كلمة خطيرة قل عني متسكعاً خانه القدر فصار لصاً، أردتُ رغيفاً من الخبز لأسد جوعي فأنا أتضور منذ يومين، ولم أجد عندك إلا رغيفاً واحداً فتركته جانباً ولم أتناول منه شيئاً، اعذرني سأرحل فوراً."
"توقّف! سأتصل بالشرطة."
"خذ يا سيدي ، هذا الراديو كل ما أملك، وأغلى ما عندي خذه ولكن لا تتصل بالشرطة أتوسل إليكَ."
"حسناً. اقترب."
دنا فرحان بخوف من المغني ذي المنظر المهيب فهو متوسط طول القامة، له ذقن طويلة، وشعر كثيف يخترق كتفيه، وممتلئ الجسم، أما فرحان نحيل الجسم تهزه الريح كغصن غض.
"نعم يا سيدي."
"دعني أضع الدواء على رأسك اجلس."
"لا يا سيدي ، تعودت على الجروح فلم يعد هناك مكان في جسمي ، فبيني وبين الجرح خبز وملح وصداقة قديمة."
عالج المغني رأس فرحان الدامي، وفرحان يشرد فيه ويفكر بمعدته الخاوي.
"قلْ لي يا سيدي، تبدو شخصاً ذا علمٍ وصوت جميل، وأرى في غرفتك أوراقاً كثيرة، اذكر أن جدي قال لي مرة، من يقرأ كثيراً إما مجنون أو عبقري، ويبدو من محياك الاثنان، لمَ وضعكَ المادي سيء؟ فأنا على معدتي الخاوية أشفق عليك."
"لا تقل عني فقيراً، بل قل: أنا من خانه القدر، أو نجمة في سماءٍ مُدلّهةٍ بأعمدة الرصيف، أغان تتحدث عن الفقر والبؤس ولا يعير أحد لها اهتماما، فالجميع يبحث عن أغاني الحب والجنس، في ذاك اليوم توجّهتُ إلى إحدى الفرق الموسيقية لانضم إليها، غنيت لهم عن الفقر فخرّتْ اللجنة ضحكاً، وقالوا: أتريد إبكاء الجماهير، نريد شيئاً مفرفشاً، خرجت من عندهم وأنا أدقق في اللجنة التي تتألف من رجال عجائز وفتيات حسناوات فعرفتُ أن الفرقة تقبل الفتيات ولا تريد المواهب ولكن الرتب تختلف على حسب حجم الخلفيات، فكل فتاةٍ تستطيع إصدار ألبوم بمقابل، ويدعمها الجميع وينظمون لها الحفلات. أما أنا فقد اتصلتُ من يومين بموظف يدعي صداقتي في نقابة الفنانين، لا تتجاوز شهادته البكالوريا عن بعض الألحان التي وضعتها في النقابة، تركني نصف ساعة على الهاتف وأنا من قلبي الطيب انتظرته نصف ساعة، ومن ثم سمعتُ فتاة على الهاتف تقول لي لقد غادر الموظف الفلاني النقابة منذ أكثر من ربع ساعة أغلق السماعة، تمنيت ُحينها أن أغني فربما يفهم الجيل القادم حزني، فقد تخرجت من الجامعة مع أني كنت أعمل وأدرس في نفس الوقت في حياة بين الجامعة والمعامل والمطاعم، كم كنت أنام في المحاضرات! والآن أغني للفقر وما من كفيل، فتبدلتْ أفكاري وحاولتُ أن أغني عن الحب."
"لمَ غنيتَ أغنية حزينة جدا؟ لقد قطعتَ قلبي كما تقطعتْ معدتي من الجوعِ."
أحضر المغني الرغيف من المطبخ وناوله لفرحان، هجم على الرغيف وأنهاه في ثوانٍ وشرب معه ما يعادل ليترا من الماء ليهضم الطعام بديلا عن المياه الغازية.
"سأجيبك يا صديقي، منذ زمن وأنا أحب رفيقة دربي في العزف والتلحين، كنا نتدرب سوية وكانت تفهم علي قبل أن أنطق بالكلام، تعلمتْ كل شيء مني كانت كثيرة السؤال لتستفيد، ثم تركتني. وكحائط أغلقت مداي في النهاية، في إحدى الأيام قصدنا فرقة موسيقية لننضم إليها وكان قائد الفرقة شخصاً ميسور الحال قبلها على الفور لجمالها الخلاب ورفضني لأني قلت لها: لا تقبلي، لكن الأضواء استهوتها فكيف لأنثى أن ترفض الضوء؟"
تركتني جانباً وابتعدت عني وركضت خلف نرجسيتها والآن ربما سيتزوجها.
"تأتيني فكرة يا صديقي، لا تنظر إلى رأسي الصغير فهو منبع الأفكار."
"ما هي يا صديقي الشحاذ؟"
"لا تقل عني شحاذاً قلْ ابن فقر، سأذهب لأسرق بيت قائد الفرقة، وأحضر من بيتهِ شيئاً ثميناً فعندما كنت صغيراً في دار الأيتام تعلمت طرق لصوصية وحين بلوغي المراهقة أعلنت توبتي."
" لا تفعل ذلك، ما الفائدة فقد سلب أغلى ما عندي."
"لا تخف، ففرحان يحدثك وعندما يقول كلمة فهو بحجمها."
تحت إصراره، شرح المغني مكان بيت قائد الفرقة، توجه فرحان إلى مبتغاه والهواء يخرج من أنفه كالتيس الذي علق أمامه قماش أحمر، فهو غاضب وعاطفي ويكوّر لكمته تجهزاً لمهمته، فالمغني أصبح أعز صديق لديه وقد أعطاه خبزاً، فمن الذي يعطي خبزاً دون مقابل؟
وصل فرحان والحجارة تكسرتْ تحت أقدامه، فقد امتلأت معدته ، وقف أمام باب الشقة وبعد محاولات عدة فتح الباب ووصل إلى بهو الشقة واستغرب لجمال المنزل وروائح الشواء التي تفوح منه والزينة الجميلة والكراسي الساحرة، وقف أمام المرآة سرّح شعره قليلاً، مشى على رؤوس أصابعه ثم دخل غرفة لم يجد فيها أحداً، بدأ يفتش عن غرض ثمين ليسرقه، سمع صوتاً فتوقف "حرامي. حرامي."
سقطتْ الأغراض من يد فرحان وركض مسرعاً لينجو قبل أن يقبضوا عليه، وصل إلى باب الشقة فتحه بعد أن اصطدم بأحدهم وقبل أن يقبض عليه هرب فرحان لكن الراديو الذي يملكه سقط في فناء الشقة، أما قائد الفرقة فلم يخرج من غرفته حتى فقط كان يصرخ.
تنفس فرحان الصعداء وهو يلهث بحث عن الراديو ولم يجده، بحث جيدا وما من أثر، فكر لبرهة أن يرجع لقائد الفرقة ويبحث عن الراديو ولكن سيقبضون عليه، فكر أن يذهب إلى صديقه المغني لكن ماذا سيقول له؟
وقف في منتصف الشارع، حاصرته السيارات بضوئها فغنى:
كل شيء يتهدم.
يفنى الأمل.
ويبقى الألم.
فآه يا آلامي.
وآه يا آلامي،
لصوص أبطال الرواية.
◄ نوزاد جعدان
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ
3 مشاركة منتدى
أغنية التسكع, محمد التميمي | 28 تشرين الأول (أكتوبر) 2011 - 21:45 1
بعد قراءة نصك أقول:
يفنى الالم
ويبقى الامل
أحسنت الكتابة والسرد
1. أغنية التسكع, 12 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011, 17:18, ::::: نوزاد جعدان
الأستاذ محمد المحترم..
تحية طيبة ..
شكرا لمرورك وكلماتك الجميلة
احترامي وتقديري
أغنية التسكع, هدى الدهان | 4 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011 - 17:46 2
"فرحان "يقولون للانسان نصيب من اسمه وهنا ليس له الا صيت الغنى من اسمه و الباقي؟ربما لايوجد حتى باقٍ . في محاولتنا لاسعاد الاخر غالبا ما نفقد الشيء الوحيد الذي كان يسعدنا .
ترى ماذا كان سيكون اسم المغني الطيب القلب ؟
1. أغنية التسكع, 12 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011, 17:16, ::::: نوزاد جعدان
الأستاذة هدى المحترمة ..
شكرا على مرورك الجميل ..وكلماتك ..سلمت ..أي اسم سيليق بهذا المغني المكسور القلب هي مهمة القارئ ...سلامي
أغنية التسكع, زهرة-ي-الجزائر | 2 شباط (فبراير) 2012 - 10:58 3
هكذا في عالم البؤس، يضمحل الامل ويطغى الالم.
كأن قصتك مستوحات من قصة البؤساء les miserables للكاتب الفرنسي فيكتور هيجو .
اخ نوزاد، مازالت هناك حاجة الى الكتابة عن البؤس والاختناق الاجتماعي،ما دام هناك فقر وجوع وجهل واستغلال.
استمتعت بهته القصة ،تعجبني كتاباتك