عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

هيام ضمرة - الأردن

مداهمة أخيرة


هيام ضمرةتتأرجح ماسحات زجاج السيارة أمامهما بجنون، تكاد تُعلن عجزها أمام بعث المطر الهاطل بغزارة، المواءمة مُجهدة أمام هذا البعث القوي، والسماء أنّى لها أن تُثبط همتها أمام إصرارها على مكرمتها العظيمة، والمطر لا يغسل الأشياء إنما يجرفها إذا ما فشل تشبثها بأوزانها، فيما الأرض فشلت تماما أن توائم عملية تصريف المياه بذات قدرة هذا العطاء المنسكب، فتحولت الطرق إلى سيول والمنحدرات إلى شلالات والمنخفضات إلى بحيرات، لتشكل شركا للسيارات. وسيارتها القديمة تصارع على وهن، وهما داخلها على كللهما يتأجج الخوف داخلهما.

تساقطت بعض قطرات على جانب وجهها الأيسر مخترقة تلفا في الإطار الكاوتشوكي المحيط بفتحة السقف، أعادتها إلى كامل وعيها، متحدية ذاك الإعياء المداهم بفعل الإصابة بأعراض فيروس الإنفلونزا.

كانت تتشبث بعجلة القيادة بكلتي يديها لتُحكم توجيهها، وهي ترنو بإعياء شديد نحو رفيقها الذي داهمته نوبة من نوبات تضيق الشرايين، القلب الذي هتكت عضلاته تكاثر الجلطات وتوالي العمليات الجراحية، حتى أضحى كالمضخة المعطوبة، تجاهد بإصرارها وصريرها على الحياة. يُلقي رأسه إلى الخلف متهالكا، يقبض بيده اليسرى على صدره عله يوقف ذاك الألم المعربد داخله، يجاهد لالتقاط أنفاسه المتعثرة على عاتيات الألم، وقد استحال وجهه المحاط باللحية المختلطة بالبياض إلى الصفرة المحتدمة، وانكمشت عيناه عل موئل غير مطمئن.

وجف قلبُها، ولاحت لها رؤى تخشى ولوجها، فانصب في داخلها صخب ضوضاء، تلاطمت على إثرها مشاعرها، المشاهد تدق داخل رأسها ناقوس الخطر، فرغم أنها دوما التي كانت تسارع إلى نقله إلى قسم الطوارئ في جميع أزماته السابقة، إلا أن هذه المرة الأولى التي تراه فيها مستسلما للإعياء بشكل مربك، يحاصره تيار الأسى وهو يرصد خافقه المتصدع، ويتحسس نبضاته المجهدة، قد أنهكه المرض واستحوذ عليه الوهن، فخارت دياجير نفسه في وديان ذاته البعيدة، فثمة قدرة لأجسادنا على الاحتمال، وعشرين عاما من المعاناة كفيلة بذبح قدرة هذا الجسد على المقاومة. وبصوته المرتج الواهن راحت كلماته تترنح هي الأخرى:

"أريدك يا دُرة الصابرين أن تسامحيني. حسبك عقدين جهادا مع رحلة مرضي، كنت فيهم وازعي على التحمل والصبر، إنسانيتك كانت تطهر جرحي فيلتئم على وشائج رعايتك."

بدت كلماته الخارجة بإعياء كرجع صدى قادم من أعماق بعيدة. انحدرت بضع دميعات قفزت عن وجنات شاحبة.

"شافاك الله وعافاك. أرجوك فكلماتك على هذا النحو تخيفني. إنها أزمة طارئة ستتجاوزها ككل الأزمات التي مضت."

"إخراجك من فراش المرض والحمى تغشاك يُعذبني. فكم تحملت معي من تفجرات الخطوب التي ألهبت خطانا بالألم. قدري أن يختبرني الله في مرض مرهق طويل منذ وقت مبكر من عمري."

"لا مرد لقضاء الله، فالمرض قدر الإنسان. لقد خُلقنا بأجساد ضعيفة لها قابلية العطب. وما قمتُ به هو واجب الزوجة المُحبة."

"بل هي الأصالة المُستنبتة فيك. لولا ما كان يتحسـسه القلب فيك من حنان لتاهت على الدرب الخطوات."

"أرجوك، استرخ، ولا ترهق قلبك بالحديث."

"وكيف استرخي والإعياء يُثقلُ جفونك، أحس بك تترنحين على حافة الوعي."

شدت براحة كفها على ساعده وهي تتابع مراقبة الطريق المغسول.

"للضرورة أحكامها يا عزيزي، ومن منا يملك اختيار أوقات مداهمة المرض لجسده؟"

ظلّ المطر يطرُق هيكل السيارة بعناد جبار، واستمرت المسّاحات الزجاجية في إيقاعها الراقص تحولُ العيون، وتجاهد بدورها لانقشاع الرؤية، وما زالت الكلمات على تحشرجها تجاوز ثورة كليهما الداخلية. فيما الألم يواصل عبثه في صدر هشام، كان القلق يراوح عقله بالتياع فيشرذمه.

بدت منشغلة عنه بالطريق حين سحب قلمه من جيب سترته الداخلية وخط بضع كلمات في ورقة صغيرة اقتطعها من مفكرة أرقام هواتفه. كانا في وضعيتهما هذه يغالبان لعبة قدرية مأساوية تمنعهما من لملمة الخوف البائس وإبعاده عن لحظة قد تكون جامحة، فكم هو قاس توقع المخيف.

بدا واضحا أن السماء فتحت للأرض أكبر سدودها، فالمطر يتساقط بكثافة مربكة بلا انقطاع، أعلنت مساحات الزجاج إفلاسها، تغبشت الرؤية، ووجدت نفسها مضطرة أن تقود ببطء لتعذر وضوح الطريق. السائقة العليلة تخوض المحاولة للنجاة بشق الأنفس، كل ما يعنيها أن تنأى بمريضها عن هاوية الخطر، إلا أن مغالبتها للفيروس الذي احتل جسدها عنوة، رافضا الخضوع لكل استحكامات المناعة فيه، يثير نوح أنفاسها، ويحرك أمام ناظريها شبح الفناء، شعورها أن الكون يضيق من حولها وأن اجتياح المرض على كليهما في وقت واحد إنذار شؤم يسومها بالبطش المغافل، يترك داخلها يتمزق.

كانت في داخلها تبتهل إلى الله طالبة رحمته ولطفه:

"يا إلهي العظيم ارحم حالنا. ودعنا نبلغ مقصدنا، ولا يهم بعد ذلك إن تركت الموت يرتوي من روحي."

كانت سارة تبحث في أغوار ذاتها عن قوة تمنحها يقظة الحضور، لم تعد عينيها قادرتين على استيضاح معالم الطريق، وباتت تجوس بعربتها طريقا لا تعرف إن كانت مقبلة باتجاهه الصحيح أم تنحرف باتجاه خاطئ، سكنها الإحباط وهي تشعر أنها ترزح تحت رحمة لحظة قدرية بليدة، رعشتها حدّ ثلم يحزّ روحها في الصميم، أيُ يأس وأيُ حصار يمسُ كيانها وإحساسها ينذرها من لحظة تخشى أن تتجاوز حدود التوقع.

تباطأت السيارة بشكل يُنذر بقدوم جنون آخر، ودواليبها تغوص ببركة من الماء، فحينما يحاصرنا اليأس في مصيدة الأخطار تتلاشى فينا الحكمة، فننحو إلى التخبط. راحت تدفع بقدمها دواسة البنزين بعصبية من يتوقع الكارثة، وهول اللحظة يربكها، فصرخت من أعماقها:

"لا. لا. أرجوك يا إلهي ليس الآن."

سكت صوت محرك السيارة تماما، فيما رعشة برد شديدة راحت تقتات فجأة على جسدها الواهن، تحوله من حالة الحرارة المرتفعة إلى حالة القشعريرة، وإذا المياه تقتحم عليهما أرضية السيارة من شقوق الاهتراء، بؤس اللحظة يصطادها، رمقت مريضها بنظرة سريعة ليتوضح لها على الفور فقدانه للوعي، هزته برعب:

"هشام. هشام."

فتحت نافذة السيارة على عجل، وأطلت برأسها طالبة الغوث قبل أن يلتهمها هي الأُخرى فكي إغماءة داهمة.

ومع تأرجح وعيها، كانت الأصوات تنصب في رأسها مشوهة، تستسلم خاضعة لطغيان بطش السقم، ليفح اسم هشام ضعيفا من بين شفتيها. فالمرض خصم ساديّ عندما يفتح باب مُنْزلقه يسحق حتى الإرادة.

هو ممدّد هناك، تتصل بجسمه شبكة أسلاك تعوّدها، يسقط صوته في خندق ذاته البعيد، يحاول عبثا استرجاعه، تخونه قواه، يكممه الوهن، ومع أول بادرة قوة ينفث سؤاله الهامس:

"أين الرفيقة المجاهدة؟"

وضعت الممرضة يدها على فيها كإشارة للسكون، وقالت مطمئنة:

"هي بخير. وقبل بضع لحظات كانت هنا بجانبك."

وعاد صوته الآتي من الأعماق: "كم من الزمن مضى عليّ هنا؟"

أعطت الممرضة إشارة حازمة بيدها توقفه عن الحديث لخطورته على القلب العليل، وانسحبت لشأن عملها.

أغلق جفنيه على وجوم الإعياء، وفي داخله آهة احتدام تفيض بإجحاف، إنما ما نفع المحاولة أمام الاصطدام بجدار الصمت.

شق جفنيه على صوت أحبهُ، ثارت شغاف نفسه حين طالع وجهها، كمن قاد سفينته في مجاهيل التيه وعثر فجأة على الشطآن، حرك شفتيه إلا أن الصوت تقطع على رخاوة أوتاره، حبسه وهن مستحكم، والعجز يزرع الحيرة، ويشرع باب الأحزان، قبض براحة كفه على يدها. جزعت إذ أبصرت داخل حدقتيه المنكمشتين نظرة مرتحلة، اقترنت بابتسامة ضعيفة إنما قبسها يشع سنا من روح تقف على المفترق الأخير، مداها اخترق كيانها، فانحنت بشفتيها دامعة على ظاهر يده تقبلها، أحسّت بيده تدس شيئا في كفها، وقبل أن تتبينه كان إصبعه يرفع راية الشهادة وتهمد في صدره الأنفاس.

في أعقاب تجاوزها أسقام الغفلة بأيام، وهمود ارتعاشات البكاء، ومداهمات الأسى الطاغي، عاودتها الذاكرة لذلك الشيء الذي تركه هشام في كفها، بحثت عنه بقلق محموم، اعتصرت ذاكرتها حتى الجفاف، داهمها صقيع جريء. اختفت الأمانة واختفى معها من فؤادها الهدوء، أضرمت الحيرة في أعماقها نيران لا نهاية لشآبيبها، ضربت يدها على صدرها القلق

"ويلي. لعله أرادني لتحقيق وصية ما. قضاء أمانة، أو توصيل معلومة ذات أهمية. ما العمل؟"

ووسط أجوائها المحاصرة برمضاء الأحزان، جلس حفيدها الطفل في حجرها. باغتها سؤاله:

"لماذا وضعت ورقة خلف إطار صورة جدي؟ هل ترسلين إليه برسالة؟"

قفزت من مكانها كأنما أنجمها تلألأت فجأة في سماء ذاتها المظلمة، سارعت إلى الصورة. حضنتها لتطفئ لظى انفعالاتها، سحبت الورقة، فتحتها بارتجاف، قرأت.

" لن أتركك. ستكونين حوريتي في السماء."

D 1 كانون الثاني (يناير) 2010     A هيام ضمرة     C 0 تعليقات