عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

غالية خوجة - الإمارات العربية المتحدة

كافيتيريا الأشباح


غالية خوجةالشتاء لا يشكل مانعا من متابعة النزهات المثلجة، بل يشكـّـل دافعا دائما لخروج الحلبية من بيوتهم إلى الشوارع والحدائق والمطاعم والأماكن العامة الأخرى. وها هو طيفي يتدلـّـى من غيوم لا تمكث في حلب أبدا لأنها جوابة في اللا مكان، يتدلـّـى أكثر ملتفتا نحو اللا جهات المتحررة من كل الفصول، الغائمة في كل شمس.

لم تكن قدماي تذكران، بعدُ، المسافة المتلاطمة بين الوجود والوجود، بقدر ما هي تذكر المسافة بين غيب وغيب. وهكذا، وأنا في حالتي الهائمة المعتادة، خرجتُ من الحديقة متجهة إلى بيت أمي. وكان أن رأيت زاوية لا مظلمة ولا مضيئة، نوافذها تشرف على شارع يصيبه الضجيج كون مدينة الألعاب تواجهه. وفي الشارع الثاني ثمة شلالات، وخضرة، واتساع وأناس لا يتوقفون عن العبور من شارع إلى شارع.

لم يكن الهواء المقابل للبارد من الحلم يلتفت إلى ما يجري. ربما كان في غيبوبة لا تنتهي من الشطح. أو ربما غادر الأوقات ليعبر إلى ثلوج لاحقة. وكان أن تمرأيتُ بالنوافذ الشفافة، ورأيت هولا من الأشباح السوداء تقدم الطلبات إلى الجالسين على الكراسي، الملتفين حول الأحاديث والقهوة والشاي والبطاطا والوجبات السريعة.

ثــَـمّ رأيتُ:

الصحون فارغة. السماءَ تفتح فاهها على آخر زرقة تدخل في العتمة، والحاضرين، الملتفين حول الطاولات يفتحون جماجمهم. الواحد منهم يفتح جمجمته بيديه، يستخرج دماغه، ثم يغلق جمجمته، يضع الدماغ في الصحن، يمسك الشوكة بيده اليسرى، والسكين بيده اليمنى، ويبدأ في التهام دماغه.

الجميع أكلوا أدمغتهم، وجماجمهم ترنّ بالهواء والسراب. المراهقة الجالسة مع مجموعة من الشباب تفتح حقيبتها الصغيرة، وبلمح البصر، تتناول قلم تلميع الشفاه، تحركه بسرعة على شفاهها، فتصطبغ بلون نبيذي، ثم تسأل:

"هل صرت أشبه أليسا أم نانسي؟"

يضحك الشباب، بينما الجالس قبالتها، يناولها مرآة صغيرة كانت في محفظته، ثم يسترجعها ليصفف شعره المتشبـّـع بمواد حديثة لصباغة الشعر وتثبيته. ينظر إلى وجهه، يتأكد من موديل التسريحة، ثم يعيد المرآة إلى مكانها قائلا:

"أنت أجمل من الاثنتين. وأنا أجمل من دي كابريو في فيلم التايتانيك."

تعلو القهقهات، تتلوى الأجساد، تتغامز القلوب.

امرأة أخرى ترتدي معطفا جوخيا أسود، ترش العطر على رقبتها، وتتابع ضحكتها العريضة. الكلّ منشغل باللا شيء. والسماء وطيفي يختلسان الاستفهامات ويمضيان. ماذا سيحدث بعد ذلك؟ وكيف يعيشون دون تفكير أو حوار أو نقاش مهم؟ ومن أين يأتون بالضحك على أسخف كلمة أو إشارة؟ ولماذا أكلوا أدمغتهم؟ وكيف يميزون الآن بين السكين والملعقة؟ هل لديهم العمر الكافي ليقضوه في التسلية؟

الصبايا لاهيات مع الشبان، والشبان لاهون مع الصبايا. هيستيريا من العواطف المستهلكة، مصحوبة بالنكات والحكايا التافهة. كافيتيريا الأشباح في كل كافيتيريا، لذلك. لا وقت للشتاء لكي يتأمـّـل الأرض أكثر. ثمة رعود متسارعة، أمطار غزيرة، ورياح توشك على العواصف.

الناس والنادلون منشغلون بمعاطفهم السوداء، منهمكون باللذات الدنيوية المتنوعة، ساهون عن الطفل اليتيم العابر، عن الشجرة النازفة، عن الشتاء الحزين عليهم، عن المرأة العاملة الراكضة إلى بيتها لتطبخ لأولادها اليتامى، عن السماء وهي تلملم أجنحتها المشعة بالقمر لتحلق مع شمس جديدة.

نسيت طيفي متدليا، ودخلت بيتنا. أمي المريضة تبتسم وهي تنتظرني أن أدهن يدها بالمرهم، أن أقدم لها وجبتها، وأن أناولها الدواء. وحالما دخلت مرتجفة من البرد والأشباح، وجدت الشتاء قرب المدفأة، الرعدَ خلف قلبي، ودمعاتي النائمات بين الموسيقى والزمان تخطفني إلى الكمبيوتر لأكتب هذه القصة.

D 1 تموز (يوليو) 2008     A غالية خوجة     C 0 تعليقات