عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

عبد السلام فزازي - المغرب

ويسألونك عن مقاهينا


عبد السلام فزازيأي عشق يستهوينا إلى فضاءات مقاهينا المدللة! وأي سمفونية متاهية تطرز عشق قهوتنا الصباحية وتدجن فينا الكلمة الواقفة في حناجرنا! أين عشق طفولة المكتبات الذي ولى وراح كزبد البحر، وعاف اليم وعانق اليابسة! وسواد قهوتنا بياض لزمن حلزوني يسخر من كل شيء. أيكون حبر قلوبنا قد هاجر طفولته الأولى واختلس خطانا نحو بوابة الصمت المشرعة، أم ترى المقهى حقا محراب من لا قبلة له، وسحر من سحر له! المقهى ناموس النميمة في زمن ضاع فيه المجداف والملاح.

والمقهى فن سابع لمن يبحث عن قيراط ضاع على كف قارئة فنجان غزتها تضاريس الشيخوخة المبكرة. المقهى سفر تكوين المثقف والمعطل والمحب التائه في ملكوت الله الواسع. إنها حقا عبادة وثنية وقداس الأنام في عالم أخرس باهت أفاك؛ وميراث شرعي لمن لا ميراث له. إنها معشر الحيارى قيثارة لا يحسن العزف عليها إلا من كانت له أنامل بارعة، ومن خاط لنفسه جبة المتاه.

المقهى بقرة صفراء فاقع لونها، تخترقها أحاديثنا المحنطة بثاني أكسيد الكربون. فماذا لو تحولت يوما مقاهينا إلى مكتبات، وكراسينا إلى حاسوب نرى عبره العالم في ثوب عشتار! وماذا لو تحولت المناديل إلى مبشرين بعجائب الإنترنت وصياغة لغة المستحيل. ماذا لو تحول ماسح الأحذية إلى مرشد لا ينطق عن هوى، والمتسول إلى إنسان يهجر فقرا كاد أن يصبح فردا في العشيرة!

أتكون حقا المقاهي اختبار الله ولعنة أمم لا تحترم نفسها! إنها حقا هشاشتنا ومخدرنا وحجرة سيزيفنا العربي الذي نسي هويته البلهاء. وهكذا أصبحنا نشنق على بواباتنا كل صباح والظمأ الناري يسري في الضلوع. وعل إيقاع أحاديثنا أصبحنا نعيد أباطيل ألف ليلة وليلة في غياب شهر زاد لنعترف بخطايا الآخرين.

نرثي من خانه صلح الحديبية ونجوم في السماء تنظر ولا تسعف. أحاديثنا لم تعد تروي عطش الثائر المشنوق، ولم تعد تدمي مقلة الأسد؛ لأننا أصبحنا نبيع العدم في حضرة الوجود، ونراقص الرياح في غياب اسرافيل. وهكذا تعفنت بنا مقاهينا وتشظى منا الأمل قبل طلوع الفجر. سياسة مقاهينا عصارة ريح إبطنا المكلوم، لأننا حقا الأمة الوحيدة التي ترفع الشعارات والخطوة إلى الوراء.

التاريخ حتى التاريخ سخر منا حتى استدار شماتة ليختلي به سعال صباحاتنا الفاترة. وعلى عتبات مقاهينا تختبئ تفاصيل سياساتنا العاقرة وتدوزن أبجديات منابرنا الموبوءة حتى النخاع. في مقاهينا نقلم أظافر أبطالنا الأشاوس ونحكي ملاحمهم البريئة منا إلى إشعار آخر. وعلى بوابات مقاهينا ننحت صدأ الزمن المقيت، ونصنع بيوتا عنكبوتية معلنين من دخلها كان آمنا. مقاهينا هي أوجاعنا التراثية بامتياز. وهي طاحوناتنا الهوائية تقتل الفتوة والشباب، وتقتل فينا نزيف الذاكرة المكوكية وعطرنا القديم.

دخان سجائر مقاهينا يدل علينا وصاهل على قتل أهوائنا الطالعة من دهاليزنا الفارغة. هكذا نقتل في ثانية أحلامنا المغتالة وعل ملامحنا غبار قميص يوسف بن يعقوب. في مقاهينا أصبحنا نبحث عن أيديولوجيات نحتمي بها، وقد أضعنا الدرب، وافتتحنا مسرحا مفتونا بغطرسة ياجوج وماجوج. مقاهينا تمنحنا عصير شجر الزقوم وتحول جنوننا إلى حلبة للملاكمة تحركها إيقاعات العدم الطالعة من بقايا صور أمجادنا التذكارية.

سياسيو مقاهينا سماسرة ينامون على برميل البارود بعين واحدة، ويستيقظون على غرغرة دم الموءودة. فمن يحاكم من، والكل يدرك أن العزاء العربي طرزوا له وزارة مستقلة عن المبادئ؟ ومن يرثي من، وكلنا غرباء في فضاءات شتى والسياسات واحدة؟ اليمين والوسط/الصراط، عملة واحدة، واليسار يبحث عن تأشيرة يوقعها سماسرة الزمن الأخير. في مقاهينا نتعلم تقبيل نصف الشفاه، ونعلل مقولة اليهود القديمة:

«مالنا أكثر عملا وأقل نفعا». في «مدرسة» مقاهينا تعلمنا لغة التسويف والترقيع بين الفاعل والمفعول به، وحمل نعوش ضحايا الحرية لنبيع قمصانهم في سوق النخاسة بثمن بخس زهيد. في مقاهينا قتلنا لغة الضاد، وأقمنا أعراسا خلف الغمام برومية منفوشة النهدين تذكرنا بزمن الغزوات. زمن حمحمات وصهيل الخيول العربية التي لم تكن تخشى الوغى.

في مقاهينا أصبحنا نعد زمن الأخطاء ونرفرف من غير أجنحة علنا نعانق صدى الكروان. لسنا ندري هل سياساتنا لم تعد تعكس عالما متشابه الأبعاد ولم تعد تدل على زمن محدد التواريخ، ولا تعايش حتى تجربة غدت كالعجائز المجربات؟ فقصاصات أحلامنا وأيامنا غدت هي الأخرى عبارة عن أقوال وصور لا يجمعها إلا اختيارها الاعتباطي والعفوي للحظة التي تجاورت بها. هكذا أبان زمن سياساتنا عن نفسه باعتباره قوة مدمرة لا سبيل إلى قهرها. وأصبح مجمل المناخ السياسي والاجتماعي من شدة اليأس واللاجدوى عبارة عن غربال واسع الثقوب يأتي على الحب والحصى معا.

هي ذي أحاديث مقاهينا تلغي علانية ضجيج تخطيطاتنا لتضعها في خانات الوفيات قبل طلوع الفجر. ولعل حروب أحاديثنا المفتعلة غدت هي الأخرى ثقيلة الظل، تمارس استعراض العضلات لتقودنا إلى القرن الواحد والعشرين، والسكين على العنق. فمن يوقظنا من سباتنا ويزيح الصخرة السيزيفية عن صدورنا؟ ومن ترى سيعيد لطفولتنا المغتصبة رقصتها خلف أسراب الفراشات؟

فما أقسى السنين السياسية العجاف! وما أقسى الساحات الملتهبة في مجرى أيلولاتنا الباردة! وما أقسى الذكريات والأماني الكاذبة، تلك التي تغسل وتكنس أحاسيسنا الراحلة عنا قسرا!

هذا زمان مشوم يا سادتنا السياسيين فمن يعصمنا من الغرق، ومن يدلنا على ظلنا المكسور؟ أعذروني إن أتتكم كلماتي قاسية من شدة حبي لكم. أما آن لهذا الفارس السياسي أن يترجل؟

D 1 آذار (مارس) 2010     A عبد السلام فزازي     C 0 تعليقات