عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

هيام ضمرة - الأردن

سـازو


هيام ضمرةغالبا ما تدهمُنا المفاجأة، من فعل تمخّض عن حيوان وأثار الدّهشة فينا، فالمفاجأة في طبيعتها تحملُ على الدّهشة، وهي تتلخّص في ذلك التحوُّل "السيكولوجي" المحرّض على الشعور بالإثارة والاستفزاز، حين يبدو أمامك مشهد غريب لم تتوقعه. ولمّا كان البشرُ أكثرُ الكائنات إحساسا ووعيا، فهم أكثرها فرحا أو تعاسة، ذلك أن عقل البشر يمتاز بخصائص التفكير والشعور، وبالتالي فالإنسان يعبرُ عن نفسه بالقول والفعل، وعقلة متاهة مخيفة لا حدود لها، يجرُه أحيانا إلى الضياع والأخطاء، مما لا يقع فيه الحيوان.

وسازو، القط الشيرازي الناصع الأبيض المدلل الكسول، اعتاد التمطي والارتخاء على مقربة من ربة البيت، كطفل يتبعها بين غرف المنزل، يتخذ مكانه على أحد الأسرة، أو على أحد المقاعد الوثيرة، متكورا في وضع القرفصاء، أو ملتفا على نفسه كالحلزون، تعتقده نائما وما هو بنائم، فما أن تُنهي ابتسام ترتيب وتنظيف الغرفة، وتخرج منها إلى غرفة أخرى، حتى يفرد نفسه، ويمُدّ جسمه بذات الكسل ليتبعها هناك ويجد له مكانا يمارس عليه بلادته. في بعض الأحيان كانت تنقطع عن مهماتها هنيهات لتلاعبه، ثم تعود إلى عملها وانهماكها، لعبته المفضلة كانت بالالتفاف على كفها متعلقا بها بكلتي يديه ورجليه وهو في وضع الاستلقاء على جانبه، فتديره في موقعه بحركة دائرية لفات عديدة، وهو سعيد يعضُ على أصابعها باحتراس بالغ، دون أن يؤذيها، كان يستأنس هذه اللعبة كثيرا، وحين كان يشاهد يدها ترتخي عن جانب المقعد فيما هي تضطجع عليه لتأخذ سنتها من الراحة، يُسارع إليها ويلف جسمه حول كفها كأنما يدعوها لتلاعبه على طريقتها.

عندما كانت بناتها يعدن من دوامهن المدرسي، يلقين بحقائبهن قرب الباب، ويبادرن النداء على سازو، فيأتي مسرعا ليقفز بين أيديهن وهو يفرك رأسه بسواعدهن تعبيرا عن مشاعر حبه، كثيرا ما كان يقضي وقت توقع عودتهن جالسا على حافة النافذة المطلة على مكان وقوف السيارة منتظرا إطلالتهن، أو يتمشى على مقربة من الباب الرئيسي، استأثر بحب جميع أفراد الأسرة ودلالهم، بل استأثر على اهتمام زوار الأسرة وإن كان سازو يبدي رهبة من الغرباء ويرفض الاقتراب منهم مكتفيا بدور المتابع عن بُعد. وبنفس الوقت كثيرون هم الذين أغاظتهم طريقة رخاء عيشه، وامتعضوا من الإسراف عليه، فلم يكن يأكل سوى أنواع محددة من الأطعمة الخاصة بالقطط، فإذا ما انقطعت في الأسواق الكبيرة، يُضْربُ عن الطعام ويموء مستجديا العواطف، متزلفا بمهارة الشحاذين المحترفين، فلا يرضى عنها بديلا إلا بصنف محدد من المرتديلا أو الطُن (تونا) دون السردين، كان مزاجيا إلى أبعد الحدود، ولا يستخدم لسرجينه إلا ترابا معقما خاصا بالقطط.

قط سياميمشكلة سازو العجيبة أنه مُصاب برُهاب الخوف للخروج من البيت، يقف عند حدود الباب مستطلعا فلا يتخطى عتبته، اكتشفوا هذه الحالة حينما حاول الابن الشاب إخراج سازو معه إلى شركته بناء على طلب موظفيه، وكانوا ألحوا عليه إحضاره لوفرة ما سمعوه عن أخباره، فوجئ الشاب بسازو وهو يُقاوم بين يديه بقوة، ويموء برعب، محاولا التفلت باتجاه الداخل، بحيث جرحه بمخالبه المُقلّمة حين انزلق قافزا مسرعا كرصاصة، متخذا من أسفل أحد الأسرة ملجأ آمنا له، ولم يتمكن من إعادة الإمساك به ثانية، فكان يهرب وهو يموء بصوت لا عهد لهم به. لم يجد أهل البيت مبررا يُرْجعون الأسباب إليه، رُغم أن القط يعيش في كنفهم مذ كان عمرُه شهرين، إلا أن ابتسام عزت هذا الخوف إلى حادثة اصطحاب ابنتها القط إلى مركز الطبابة البيطرية، حيث أُعطيّ المطعومات اللازمة، وأجريت له عملية تعقيم تحدُّ من قدرته الجنسية، حتى يمتنع عن الاختلاط بالقطط البلدية، فتنتقل إليه جرثومة قاتلة، وكان الطبيب أكدّ أن تغييرا سيطرأ على القط بالتحول إلى الجُبْن جراء هذه العملية. يومها أعيد سازو وهو ما زال تحت تأثير مادة التخدير، وقضى فترة طويلة نائما، وحينما أفاق من نومه نهض من مكانه وسار على مقدمتيه الأماميتين وهو يجر جسمه الخلفي على الأرض، يومها بكت ابتسام حزنا والتياعا وأحست بذنب كبير نحوه، ولامت ابنتها على ما فعلته بهذا المسكين، ثم همد طوفان القلق بعد ساعات حين عاد لطبيعته ولم يبدُ عليه الأذى.

في ذلك اليوم، وضيفة الأسرة الشابة القادمة من إحدى دول الخليج تتابع مسلسلا على إحدى الفضائيات في صالة المعيشة، فيما أنهت ابتسام أعمالها المطبخية من طبخ وتنظيف أوان وترتيب خزائن، كان عليها أن تُنهي أعمالها في المطبخ بتنظيف أرضيته قبل أن تنضم إلى ضيفتها، فراحت تفركه بالماء والصابون، إلى أن لاحظت دكونة الخطوط ما بين قطع البلاط ، فقررت أن تستخدم مادة الكلور، ثم تذكرت أن ما يُزيلُ اسوداد الخطوط هو مادة الفلاش الشبيهة بماء النار أو هي بعض منه، فرشّتْ منه بضع قطرات في أماكن متفرقة، تفاعل الفلاش سريعا مع مادة الكلور المُعقّمة، مُنتجا أبخرة سامة شديدة التخريش للأغشية المخاطية في مجرى التنفس والبلعوم، فاشتعل حلقها، واضطرب مجرى أنفاسها، وتملكها السعال المتواصل من جراء الشعور بالاختناق، فيما اغرورقت عيناها بالدموع، وراحت تتطوح كالمشرف على فقدان الوعي.. فما كان من سازو إلا أن راح كالممسوس يقفز باتجاه الضيفة يموء مواء حزينا ثم يعود ليقف بباب المطبخ وهو يموء بذات الصوت الحزين، وظل يكرر فعلته، إلى أن تنبهت الضيفة وسمعت صوت سعال ابتسام المتواصل، فهبت من مكانها وشعور بالقلق يتملكها بأن هناك أمرا جللا يحدث، أسرعت إلى ابتسام وكانت وصلت بصعوبة إلى باب المطبخ، فساعدتها على الخروج، وراحت تسكب المياه بوفرة فوق المواد المتفاعلة لتخفيف مرّكبها، ثم أسرعت إلى الأبواب والنوافذ تُشرّعُها.

جلست ابتسام على زاوية الأريكة الكبيرة في صالة المعيشة منهكة، تحاول أن تلتقط أنفاسها، وتسيطر على سُعالها، وكمية من المناديل الورقية في راحة كفيها تجفف بها شلال دموعها المنسالة، أحضرت الضيفة القلقة كوبا من الماء، شربته ابتسام لتغسل عوالق البخار عن مجاري حلقها، وتخفف من عملية التخريش التي جرّحت حلقها وبلعومها، ووسط كل ذلك تنبهت ابتسام للقط سازو، كان لحظتها واقفا على قائمتيه الخلفية مقابلها، واضعا قائمتيه الأمامية على ركبتيها، مركزا نظره في وجهها، وينوس بمواء حزين، فاجأها الموقف، فانتزعت من بؤس الحالة ابتسامتها، ووضعت كفها بحنو على رأسه وهي تظهر دهشتها، مما شجع سازو للقفز إلى حضنها وهو يفرك وجهه بيدها، كان واضحا أن القط قلق عليها، وأنه يُحس بحالها، وأنه كان يحاول التعبير عما يجيش به، وربما لو كان لينطق لسألها عن حالها، فالموقف يوحي بذلك الاستشراف، كان سازو يهتدي بحدسه الغريزي بطريقة تثير العجب إلى ما يصيب أحد أفراد الأسرة من سوء.

تغلّب سازو على رُهابه حين انتقلت الأسرة للسكن في بيت آخر، لمطبخه بابُ يُفضي إلى الحديقة، ظلّ مدة طويلة يقف مواجها قطط الشارع يُبادلها النظرات، يتقدم خطوة ثم يعود أدراجه، والخطوة ظلت تزداد خطوات، إلى أنْ انفلت يوما وقفز مع القطط الأخرى من فوق السور، وبدأت غيباته تطول في الخارج ليعود متسخا تفوح منه رائحة كريهة، فتسارع به ابنة ابتسام إلى الحمام، وهي لا تنفك تؤنبه، تحممه بالماء والصابون، ثم تجففه بمجفف الشعر، فيعمد إلى إغاظتها بدخول مدخنة المدفأة ليخرج منها ملوثا بسخام الدخان الأسود، فيجن جنونها وترغي وتزبد وتلعنه، ثم تُعيد حمامه وتجفيفه.

كبُر سازو وكبُرت معه مشكلة فرائه المتطاير، وتسببت بإصابة ابنة ابتسام بحساسية المجاري التنفسية ، وأدمنت أدوية الحساسية لتفتح لها منفذا للتنفس، في بعض الأحيان كان الأمر يتطلب نقلها إلى المشفى لوضع تنفسها على جهاز الأوكسجين، وأصدر الطبيب تعليماته، أنّ شفاء الابنة مرهون بإخراج سازو من البيت، وسازو كبُر وأصبح حجمه يفوق حجم القطط العادية بكثير، وما من أحد يرغب بتحمل نفقاته، الجميع معجب بجمال شكله ونصاعة فرائه الذي لا تشوب بياضه شائبة، وبذكائه وخفة حركاته في اللعب، إنما مسألة ما نشأ عليه من رفاهية تجعل الجميع مترددا في اقتنائه، حتى محال بيع الطيور والحيوانات لم يجدوه مجديا تجاريا لكونه ليس صغيرا بالسن.

إن مجرد اتخاذ قرار التخلي عن سازو قلب ميزان أمزجة أفراد الأسرة، وأثار جدلا بين الرافض فكرة إقصائه والقابل بالأمر الاضطراري، فصحة الابنة تأتي متقدمة على كل الأولويات، وحالتها لا تقبل التروي ولا تحتمل المراهنة.

كان يوما صيفيا تتميز شمسه بطول إطلالتها، حينما زارت ابتسام قريبة لها تسكن في مدينة أخرى، كانت ممن يتعلقون بالقطط، وتحتفظ في غرفة مستقلة عن بيتها بعدد من القطط، تراعيهم وتغذيهم وتتحدث إليهم، لم ترفع الضيفة نظرها عن القط، والغريب أن سازو الذي لا يحب الغرباء، استجاب لندائها، وقفز إلى حضنها، كور جسمه مستكينا، وأغمض عينية مستسلما ومستلذا لحركة باسط كفها وهي تمسح على فرائه، فصاحت من فرط تأثرها:

"يا الله ما أروعه! أريده. أرجوك أن تمنحيني إياه حتى لو لمدة أسبوع واحد."

سقطت كلماتها على ابتسام كطوق نجاة ألقي فجأة على مرمى تجديفة واحدة من يدها، فتمسكت به على عجل وقالت بشيء من التمنع:

"لا أستطيع. ستثور ثائرة أبنائي، هم متعلقون به."

"سآخذه ليلقح قططي عساها تنجب قططا مثله."

لم تبح ابتسام لضيفتها بحقيقة فقدان القط لقدراته الإنجابية، وأبقت الأمر طيّ سريرتها، لم تشأ أن تُطلع مضيفتها عليها فتتراجع عن عرضها، وقالت:

"ليس من الممكن منحك القط لزمن محدود، فإن ذلك يُعدُّ تعذيبا له ولنا، إنما أستطيع أن أمنحك إياه، وأقنع أبنائي أن القط فُقد خارج البيت، وسيمر الأمر عليهم دون تعقيد."

ورحل سازو دون وداع، دون دموع، ودون آلام، لكن ذكره ظلّ حاضرا، وظل اسمه مترددا يُطلق على كل طفل جميل تدليلا بين الحين والآخر يُخرجُ الأبناء صوره وهم يتساءلون: "أين تراك أصبحت أيها الجبان الناكر للجميل؟"

D 1 آذار (مارس) 2010     A هيام ضمرة     C 0 تعليقات