عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

عبد الجليل لعميري - المغرب

العلبة الحمراء


عبد الجليل لعريبيتسلم الوالد –الموقر– "الكولية" التي وصلت باسمه من مصلحة الطرود، بعد أن أدلى بحججه الدامغة في أحقيته بذلك. كانت عبارة عن علبة كرطون مستطيلة جميلة المظهر، يطغى عليها اللون الأبيض، الموشوم بالأزرق والأصفر. كانت متوسطة الحجم، وخفيفة. كتب عليها بحروف طباعية بارزة: "طرد متوسط"، مع اسم ثلاثي للمرسل من الكويت، وكذا المستقبل بالمغرب. خفة الطرد أثارت استغراب الأب، وجعلته يتساءل:

"لماذا كل هذا التعب والسفر الطويل من اجل هذا الشيء الصغير؟"

واستحضر صوت زوجته (الأم) تتوعده: "ما تفتح الكولية. فيها شيء حاجة خاصة". وهم أن يفتحها ليقتل أصوات شكه وأسئلته المغرضة. لكن صوت الزوجة ارتفع حادا في وجهه: "ما تفتحش الكولية. ما تفتحش الكولية". فعاد إلى المحطة الطرقية، وشد الرحال نحو البلدة، والكولية بين يديه لا يفرط فيها ابدأ.

* * *

انفتحت الكولية وخرجت منها امرأة جميلة، بل فاتنة، بشعر اسود منطلق، وجسد بض، وقامة هيفاء، عارية (والعياذ بالله) وتحمل في يديها ثعبانا يتجاوز طوله المتر. ألوانه زاهية: اصفر ممزوج بالأحمر، وموشوم بالأسود، ومتخلل بالأبيض. أنيق، يدغدغ جسدها، ويتلوى عليه، منسابا بنعومة فائقة تجعل جسد المرأة يهتز ويشع منه نور أبيض يشكل هالة قمرية رائعة.
أصيب الأب برهبة، ونشف حلقه، وأحس أنه يصرخ بقوة. مما يصرخ؟ أمن الخوف أم من الدهشة والصدمة؟

* * *

"سبحان الله اسيدي"، قال له جاره في الحافلة، حين وجده يصرخ، والكولية تكاد تسقط من بين يديه. أفاق الأب على صوت جاره، واستغفر الله، وتجنب أن يحكي له عن حلمه: "إنه غريب عني"، غمغم.

بعد ساعة كانت الحافلة تقذف بركابها في دروب البلدة. أسرع الأب إلى البيت والكولية بين يديه، مرتاح لنجاحه في المهمة. ولكن انزعاجه ملموس من المنامة الغريبة، ومن غموض سر هذه الكولية.

* * *

استقبلت الأم الكولية بحفاوة، دون أن تعير أدنى اهتمام للاب وحالته. انزوت في غرفة بعيدا عن أنظاره، ولحقت بها ابنتها، وشرعتا في فك رموز "العلبة السوداء" رغم أن لونها تتقاسمه ألوان عديدة، ووصلتا إلى قلبها: صورة للعريس (ابنها) وعروسه، مكتوب على ظهرها: "تحية لأمي وأبي وأخواتي وإخوتي. هذا حقكم من العرس. حتى موعد مقبل..."، ومنديل ابيض، ناعم الملمس، يلف سروالا مغربيا ابيض مطرزا بنقوش خضراء: سروال الدخلة، وعليه أثار نقط دم جافة.

شمته المرأة، وأطلقت زغرودة، فنبهتها ابنتها إلى الأب الرابض في مكان غير بعيد، فتخلت الأم عن رغبتها في الزغرودة، وانتهت المهمة الخطرة.

وفي تلك الليلة كان الأب ما يزال يفاوض الأم عن سر الكولية، وهي تناور لإبعاده عن السر الأحمر المهاجر عبر الطائرة من الخليج إلى المحيط. وحين حكى لها عن منامته، تضاحكت وقالت له:

"أنا تلك المرأة، وهذا هو..."

واستعملت غوايتها السحرية للتطويح به بعيدا عن الموضوع.

D 25 كانون الثاني (يناير) 2012     A عبد الجليل لعميري     C 9 تعليقات

6 مشاركة منتدى

  • من المؤسف جدا للإنسانية أن يستمر البعض من العائلات بالقيام بمثل هده التصرفات و نحن في القرن الواحد و العشرين، من المؤسف أنه بعد ما حققته المراة لنفسها و للإنسانية لا نتحدث عنها إلا بما هو شرف للرجل، و أي شرف هذا؟


  • قصة جميلة بأسلوبها المسترسل تدفع بالقاريء في شوق إلى انتظار ما سيؤول إليه الأمر مع الكولية لتترجم أخيرا عادة يتمسك بها العديد الناس في مجتمعنا ،فهناك من يحبدها وهناك من يقدح فيها .
    تحياتي ليراع ينز ألقا و كاتب ينضح أدبا.


  • ** العلبة الحمراء **

    لقد عودنا القاص الحمري المغربي د. عبدالجليل لعميري، بمفاجئاته الإبداعية الرائعة، التي لطالما عكست لنا قوة هذا المشاغب المشاكس الفكرية، وقدرته النقدية الكبيرة على استثارة الواقع الإجتماعي، وخلخلة عاداته وتقاليده الموروثة... ولعل قصة "العلبة الحمراء" هذه المرة حافلة هي الأخرى بأشياء كثيرة تدفع ذاتية القارئ نحو ممارسة التأويل والنقد، لإستنباط المجهول من المعلوم، والخفي من الظاهر، ومن تم جعل الواقع المعيش ينسجم مع تقلبات زمانيته وتغيراته المستمرة.

    قصة مثلها مثل القصص لعميرية السابقة، تقف ليس فقط عند تفكيك بعض المفاهيم المتداولة في االأدب وإنما تعرض أيضا لعملية النقد ذاتها وتوجه سؤالا غير مباشرلبعض العادات التي ألفناها في قرائتنا للنصوص الأدبية وانتقادنا لها، خاصة منها تلك التي يغيب فيها عنصر الإثارة والتشويق وكذا التماسك المنطقي.. فأن تكتب القصة معناه أن تسافر بعقلك وتفكيرك باتجاه المسكوت عنه والمسلم به، لترديه غريبا بعدما كان مألوفا ومصادرا.

    هذه هي ميزة لعميري : "الإغتراب وسط المألوف، ونقل الوقائع والطقوس الإجتماعية من بعدها الإطلاقي الثابت، من بداهتها المتداولة، نحو بداهة واضحة ومتميزة وأكثر عقلانية.. فالخروج عن المألوف يعني أساسا الخروج عما هو معتاد ومكرور، عما لا ينفك عن الوجود عن العادة، إلى غير ما نحن عليه. إنه الخروج عن الحضور والتطابق والهوية نحو ما هو مخالف، نحو الغريب الذي لا هوية تحده وتحدده.

    لكن كيف نخرج عن المألوف؟ كيف نصبح على هامش الألفة؟ وكيف نخلق عالما ينبض بالحياة والحيوية؟ لعل القصة مع عبدالجليل لعميري قد أجابتنا بسكونها وصمتها الروحي الفلسفي عن هذا السؤال مرات عديدة، مجيبة القارئ "إذا ما أردت أن تتجدد، فما عليك إلا أن تتذوق لغتي وحكايتي، و تغترب في دروب أحداثي، كما تغترب الشمس في عالم الفضاء".

    إن الحديث عن المسكوت عنه (دم العروس بعد ليلة الدخلة وما يرافقه من زغاريد وطقوس مشينة) هو حديث عن سلوكات موروثة لا أساس لها من الصحة أو اليقين، بدليل تأثيرها السلبي نفسيا وأخلاقيا وإجتماعيا على حياة الإنسان (الأنثى خاصة).

    أين هو دور االعقل؟ وأين هو دور االعلم في العصر الحديث؟ هل سيظل العقل العربي قابعا في حجره وتزمته إلى الأبد، أم أنه سيتغير في زمان لا ندري متى سيأتي؟ شكرا لك أستاذي االكريم على قصتك الرائعة... حقا كانت ممتعة ومثيرة للدهشة والسؤال... دامت لك محبة الكتابة ودمت للقصة عالما ينبض بالحياة والجدة.


  • قصة جميلة جدا وطريقة سرد جد رائعة لتصل بنا في النهاية لمغزى القصة
    ومع كامل الاسف مازلت هذه السلوكات الغبية تحكم مجتمعنا ومازلنا نؤمن ان النقط الحمراء هي مقياس شرف الفتاة


  • الشرف أن تكون نقيا زاهدا في ممتلكات غيرك ،صادقا ، تقي بمعنى مخافة الله ، لا تفعل بالخفاء ما تخشاه بالعلن ، نظيفا طاهرا ، نظيف اليد واللسان ، وليس كما يفهمه معظم العامة والدهماء من حيث ارتباطه الحصري بجسد وسمعة المرأة فقط !


  • الشرف أن تكون نقيا زاهدا في ممتلكات غيرك ،صادقا ، تقي بمعنى مخافة الله ، لا تفعل بالخفاء ما تخشاه بالعلن ، نظيفا طاهرا ، نظيف اليد واللسان ، وليس كما يفهمه معظم العامة والدهماء من حيث ارتباطه الحصري بجسد وسمعة المرأة فقط !


في العدد نفسه

كلمة العدد 68: الجوائز والتغاضي عن الأخطاء الفادحة

عن مبدعة الغلاف

قراءة في تجربة الانتقال السياسي التونسي

منظور النّقد عند عبد الملك مرتاض

تجربة كريمة ثابت الشعرية