عدلي الهواري
كلمة العدد 50: عن اللغة والتخلف
من بعض ما قرأت في الآونة الأخيرة جدل قديم متجدد حول مواكبة اللغة العربية للعصر، وأنها حاملة للتخلف والعقلية القمعية وما شابه من سلبيات تلمس في العالم العربي. وذكرني من يحاجّ بذلك ببعض من يزورون بلدا غربيا لبضعة أيام، فيحدثون المقيم فيها منذ سنوات عن عراقة البلد، ورقي ثقافته، ودماثة أهله، ودقة النظام فيه. وإذا رد المقيم إن الوصف ليس بهذه الدقة، يرد الزائر على المقيم بأنه لا يعي ما يقول.
على النحو ذاته نرى من يتقنون بعض الفرنسية أو الإنجليزية أو غيرها من لغات أجنبية، وبعض من لا يتقنون إلا القليل منها، يحاجون بأن اللغة العربية ليست صالحة لهذا الأمر أو ذاك، وغير مواكبة للعصر، وغير ذلك من مزاعم، لا تصمد أمام بعض التمحيص.
ثمة افتراض أن في بريطانيا مثلا لا توجد لغة إنجليزية فصحى، وأخرى دارجة، وكذلك الأمر في فرنسا أو إسبانيا أو ألمانيا. ويعرف المقيم في واحدة من هذه الدول أن هناك فصحى وعامية، ولا يتقن اللغة الفصحى كل أبناء البلد الأصليين.
والافتراض الخاطئ الثاني يفترض أن كل إنجليزي وكل فرنسي وكل ألماني وكل إسباني ملم بلغته، خلافا للعربي الذي لا يتقن لغته، وأن لغته (العربية) عصية على الإتقان.
أما عن مواكبة العلم والاختراعات، فيخطئ من يظن أن الإنسان العادي في الغرب يفهم كل المصطلحات العلمية لأنها مشتقة من جذور لاتينية ولدت منها لغته، فهناك مشكلة يعاني منها غير المختصين بالمصطلحات من كل الأنواع: الطبية والعلمية والمصرفية والتأمينية، وحتى السباكية، فكل مهنة تتبنى مجموعة من المصطلحات لا تكون مألوفة لبقية الجمهور.
والافتراض الآخر أن كل من تعلم قول ميرسي وباردون وثانكس وكول قد علا في سلم الرقي الفكري افتراض خاطئ أيضا، ونظرته للأمور سطحية للغاية. في الدول المتقدمة أيضا هناك تيارات فكرية بعضها تقدمي وبعضها عنصري بغيض، ولو كانت اللغة هي مصدر تبني الفكر وتطوره لوجدنا نوعا واحدا من الفكر في فرنسا أو ألمانيا أو إسبانيا وغيرها من الدول أو الأمم. صحيح أن البلاد العربية وغيرها تعاني من مشكلات كثيرة، ولكن تحميل المسؤولية للغة أمر لا يمت للحل بصلة. وخير دليل على ذلك أن بعض الدول التي استعمرت في الماضي تتكلم الفرنسية والبرتغالية والإسبانية والإنجليزية، ولا تزال أحوالها أحوال دول نامية مثلما هي الحال في العالم العربي.
مع أطيب التحيات
عدلي الهواري
◄ عدلي الهواري
▼ موضوعاتي
- ● كلمة العدد الفصلي 34: أعذار التهرب من المسؤوليات السياسية والأخلاقية
- ● كلمة العدد الفصلي 33: تنوير أم تمويه؟
- ● كلمة العدد الفصلي 32: حكّم/ي عقلك وأصدر/ي حكمك
- ● كلمة العدد الفصلي 31: قيم لا قيمة لها
- ● كلمة العدد الفصلي 30: النقد والمجاملات
- ● كلمة العدد الفصلي 29: عن الذكاء الصناعي (والغباء الطبيعي)
- ● كلمة العدد الفصلي 28: الورق والتمويل: وصفة الانتحار البطيء
- [...]