عدلي الهواري
كلمة العدد الفصلي 29: عن الذكاء الصناعي (والغباء الطبيعي)
كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن الذكاء الصناعي وبلوغه درجة من التطور دفعت بعض من كتبوا عن الموضوع إلى التنبؤ باختفاء بعض المهن. وذكر في هذا السياق تشات جي بي تي 4، الذي يمكن توجيه الأسئلة إليه، فيأتي للسائل بإجابة قد يكون فيها الكثير من المعلومات، ومكتوبة بلغة تبدو طبيعية، خلافا للحال عندما يلجأ أحد إلى ترجمة نص باستخدام غوغل الذي يعود إليك بترجمات تكون عيوبها واضحة.
الانبهار بالتطور العلمي والتقني يجب ألا يؤدي إلى مصادرة العقول فلا نرى ما يستحق النقد والتأمل والتفكير في بعض التبعات المحتملة لهذه التطورات المبهرة. لنعد قليلا إلى بدايات ظهور الحاسوب والإنترنت. كانا تطورين مبهرين. لا شك في ذلك. ولكن في الوقت نفسه، ماذا أظهرا لنا؟ جاء لنا الحاسوب بظاهرة النسخ واللصق. والإنترنت أظهرت لنا ضعف مستويات التمكن من اللغة العربية، وأكتفي بهذه الملاحظات لحصر النقاش في جانب ذي علاقة بالكتابة والبحث والنشر الرقمي. وطبعا ساد في عصر النشر الرقمي نسخ الأبحاث والمقالات ونشرها في أماكن ثانية باسم من لم يكتب كلمة فيها، أو أجرى تعديلات طفيفة لا تجيز له ادعاء أنه المؤلف.
بعد قراءة منشورات تشيد بتشات جي بي تي 4، سجلت في أحد المواقع الذي يقدم خدمة مجانية محدودة، واختبرته ببعض الأسئلة. بدأت بسؤال قد يبدو صعبا عليه، وهو السؤال عن اسم ناشر مجلة "عود الند" الثقافية. ولم أستغرب عدم تمكنه من الرد ردا صحيحا. وسألته من هو مؤلف قصيدة "الأطلال"، فعاد إليّ بإجابة خاطئة. وفيما يتعلق بهذا السؤال لا عذر على هذا الخطأ، فالقصيدة شهيرة جدا نتيجة تحولها إلى لأغنية لأم كلثوم تعتبر من أجمل ما غنت.
الآتي مثال على إجابة من تشات جي بي تي على سؤال عن مجلة "عود الند" الثقافية:
"أعتذر، لكنني غير قادر على توفير معلومات حول مجلة "عود الند الثقافية"، لأنني محدود بالمعرفة المتاحة حتى سبتمبر 2021، ولا يشمل ذلك أحداثًا أو تطوراتٍ حديثة. قد تكون المجلة قد تأسست بعد ذلك الوقت، أو قد لا تكون معروفة بشكل واسع. من الممكن أن تستفسر حول المجلة من مصادر أخرى أو تتصل بالناشر المعني للحصول على مزيد من المعلومات".
مجلة "عود الند" الثقافية تأسست في عام 2006. لذا، لا عذر لهذا الذكاء على عدم توفر معلومات عن خمس عشرة سنة مشمولة في حدود معرفته، وهو يبدو ككثير من البشر الذين يهتمون فقط بما هو معروف بشكل واسع.
مقابل الكثير من الإشادة المنبهرة بالذكاء الصناعي، هناك كتابات تحذر من بعض الآثار المحتملة له. على سبيل المثال، عند توجيه سؤال متعلق بالقضية الفلسطينية، تأتي إجابات معقمة، إن لم نقل منحازة، لأن الذكاء الصناعي لا يخترع معلومات، بل يعتمد على ما سبق نشره. ولذا، في حال وجود تحيز في الخطاب إعلامي في الغرب، سوف يظهر ذلك في الإجابات. وسوف ينطبق الأمر نفسه مسائل أخرى مثل العنصرية والمساواة.
لنأخذ وسائل التواصل الاجتماعي كمثال آخر. كان الزعم في البداية أن هذه المواقع هي منابر لحرية الرأي. ولكن الجميع يعرف الآن أن الحسابات تغلق وتقيد دون أن يكون للمستخدم القدرة على الاعتراض على ذلك. وأصبح من السهل على الحكومات أن تعاقب من يكتب على هذه المواقع آراء لا تعجبها. وإضافة لذلك، هذه المواقع تمطر المستخدمين بالإعلانات، فالمستخدمون بالنسبة إليها ليسوا أكثر من مستهلكين تحثهم على شراء شيء ما.
لقد سهلت لنا التكنولوجيا "الذكية" الكثير من الأمور، وفي المقابل يكاد يكون كل ما نفعله مرصودا، فهاتفك "الذكي" يحدد موقعك باستمرار. ومع ذلك، لم نعد قادرين على الاستغناء عن استخدامه، فمن المحتمل أنك بحاجة للذهاب من مكان إلى آخر وسوف تستخدم الهاتف لطلب تكسي.
إن الظواهر السلبية التي ظهرت مع ظهور الحاسوب والإنترنت سوف تتكرر مع الذكاء الصناعي المتعلق بالكتابة والبحث. سيكون النسخ واللصق والرغبة في الحصول على المعلومات بسرعة أهم عند الكثيرين من الرجوع إلى مراجع، والتأكد من المعلومات بالرجوع إلى أكثر من مصدر.
أما بالنسبة إلى انقراض بعض المهن بسبب الذكاء الصناعي، فهل الأمر مثير للإعجاب حقا؟ يجب أن نشعر بالقلق من ذلك. كل مهنة تنقرض تعني أناسا بلا عمل. وإذا تقلصت مجالات عمل الإنسان، فهذا يعني انتشارا للبطالة، والفقر بالتالي.
إن الهوة بين مستويات معيشة أبناء المجتمع الواحد تزداد اتساعا، وكذلك الحال بين قلة من الأثرياء في العالم والسواد الأعظم من الناس في مختلف أنحاء العالم.
ونعرف أيضا أن كل من لديه مشروع تجاري سوف يبحث عن خيارات تقلل التكاليف وتزيد الأرباح. لذا لن يتردد صاحب مشروع عن تبني ما تقدمه له التطورات التقنية.
تخيل مثال فندق تحجز مكانا فيه على الإنترنت. تذهب إلى الفندق فلا تجد شخصا يستقبلك، بل تجد جهازا تلمس شاشته، فيحدد لك رقم الغرفة، ويخرج لك بطاقة إلكترونية بدل مفتاح الغرفة. المصعد أيضا يعمل تلقائيا. هذا مثال واقعي. كم فندق في العالم؟ وكم موظف استقبال يعمل فيها؟
ترحيبنا بالتطورات التقنية يجب ألا ينسينا جوانب أخرى مثيرة للقلق. انبهارنا بما هو جديد ومثير يجعلنا ننسى هذه الجوانب.
◄ عدلي الهواري
▼ موضوعاتي
- ● كلمة العدد الفصلي 34: أعذار التهرب من المسؤوليات السياسية والأخلاقية
- ● كلمة العدد الفصلي 33: تنوير أم تمويه؟
- ● كلمة العدد الفصلي 32: حكّم/ي عقلك وأصدر/ي حكمك
- ● كلمة العدد الفصلي 31: قيم لا قيمة لها
- ● كلمة العدد الفصلي 30: النقد والمجاملات
- ● كلمة العدد الفصلي 28: الورق والتمويل: وصفة الانتحار البطيء
- ● كلمة العدد الفصلي 27: الموارد الرقمية بين المكتبات والمواقع المفتوحة: مقارنة
- [...]