عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

سليم الموسى - الأردن

البطل الصغير: قصة للصغار


سليم الموسىإذا اتّجهْتَ إلى الغرب من مدينة جــنـين، فسـتمرّ بواد يسمى وادي بـرقين وهو مزروع بأشجار الزيتون المعمـِّرة، وتمرّ فيه الطريق التي تؤدي إلى قرية برقين والـتي تقع على بعد أربعة كيلومترات فقط من المدينة، وتقع على تلة مرتفعة عن الواد، وإلى يسار القادم إليها من المدينة. وتشتهر هذه القرية بزيتونها وجودة زيته، وحلاوة وكـِبَر بطيخها الذي يُضــربُ فيه المثل.

وفي القرية كنيسة أثـــرية يُقال إن المسيح علــيه السـلام شـفى فيها الأبرص والأكمه، وهي إلى ذلك أم الشهداء، كما يسمّـيها الناس، فقد كانوا ينــقلون إليـها الشهداء من جـــنين والمخيم ليدفنوا فيها، حيث يُـمكن التنقـّل بينها وبين مخيم جـنـين عـِـبْرَ الجــــبال ومــــزارع الزيتون الكثيفة بأمان، كما كانت هذه الجبال والمزارع قلعـة للمقاومين. يختفون فيها ويتـَلقـَوْنَ من الأهالي كلّ الدعم والمسـاعدة.

كانت أم أحمد تتوضأ لصلاة الصبح حين سمعت الطـَرَقــات المعتادة عــلى أعمدة الكهرباء، عـَرَفت أن جنودَ العدو قادمون، فـتلك هـي الإشـارة المتـّفقُ عليـها بــــين أهــالي القرية، وبها يتنبـّهُ المقاومون فيختفون. وتبدأ هذه الطـَرَقاتُ عادة من الجزء الشماليِّ من القريــة الذي يـُـطـِلُّ على طريقها في الوادي، ويمضي هذا الطريق في صعود حـّاد إلى مدخل القرية.

أسرعت أم أحمد إلى غرفة زوجها توقظه ليغادر الدار، فهو من الملاحَـقين، وبيـــنما كــان زوجـُـها يغادر الغرفة، كانت هي تـُسرعُ إلى غــرفة الصــــغير أحمد تـــوقظه كذلك خوفـا مــن اقـتحام الجنود للبيت.

أحاطت دبـّابات العدو وسيـّاراته بالدار التي تقع في حاكورة مزروعة بالأشجار المثمرة، ثم اقتحموا المنزل بقوة وعنف، وهم يـُطلقون النار في الهواء.

صاح قـائدهم: "أين زوجك؟ نحن نعلم أنـّهُ هـنا"، وتابـــع يقول لجنوده المستعدين لإطلاق النـار، "اقلبوا البيت رأسـا على عقب، حطـِّموا كلَّ شـيء."

كان أحمد الصغير، ابن الثامنة، يقف إلى جوار أمـّه، وأمسك أحــــد الجنود قـــيـثـارة الصغير وحطـّمها، فصاح أحمد: "لماذا كسَرْتَ قيثارتي أيها الجبان؟" وهجم على الجندي وعـضـَّه في رجله، فما كان من الجندي إلاّ أن دفع الصغير بقوّة فأسقطه أرضا، وضربه بعقب البندقية على يده وهـــو يقول: "سأكسر يدك التي تعزفُ بها"، فراح الصغير يصرخ من الألم، وسمعه أبـــوهُ الذي كان يختفي بين الأشجار، وظنّ أنهم يعذبونه ليعترف على مكان والده، ولم يـَحـْتـَمِلْ صراخ ابنـــه، فــــعاد إلى البيت وسـلـّم نفسه، فقيـّده الجنود وعصبوا عينيه وغادروا.

نـَقلَ بعضُ الشباب الصغير أحمد إلى مستشفى المدينة، وتمّ وضع جبيرة لِـيَــدِه،
وانتشر الخبر في القرية، فجاءت نساؤها يملأن منزل أبي أحمد بالزغاريد، وجاء مدير ومعلمو وطلاّب المدرسة يزورون أحمد، ويسأله المدير: "هل حقـا شتمت الجندي، وقمت بعضـِّه أيـــها البطل الصغير؟"

ومن يومها، وكلّ أهل القرية يـُنادونه بهذا اللقب. ومن يومها كذلك، أصبح أحمد تلميذا في مدرسة فــلسطين، يـُصـّــِر أن تُحدِّثـَهُ والدتُه عن الاحتلال: متى بدأ؟ وكيف حدث؟ وعن القرى والمدن الفلسطينية، والهـجرة والمخيّمات، والمذابح التي ارتكبها العدو، والقدس والأقصى، والمقاومة والانتفاضة، والأهم منــذ ذلك الصمود وحق العودة، هذا الحق الذي لن يتنازل عنه فلسطينيٌ واحد مقابل كلّ الإغراءات التي في الدنيا، فالوطن هو الأمل، وهو الروح والحياة، والتضحية بالنفس والنفيس هي الشعار الذي نرفعه في وجه الاحتلال، ولأولئك الذين يقفون من ورائه.

وكانت الأمُّ وهــي معلـّمة في مدرسة القــرية، تشرح لابنـــها تفاصيل القضية الفلسطينية مستعينة بخارطة كبيرة لفلسطين تبيّن جميع المدن والقرى الفلسطينية قبل الاحتلال، وفيها فِهرس لكل القرى التي أزيلت من الوجود. وكانت تكرّر أمام أحمد بعزم وتصميم، وبنبرة تحـدّ وصدق بأن أهالي هــذه القرى مصممون على إعادة بنائها وتعميرها وزراعة أراضيها والعيش من خيراتها، وهم ينتظرون بشوق وأمل أيام التحرير القادمة بإذن اللـه.

وأصبحت تلك الخارطة رفيقة أحمد، لم يعد يلعب مع أصحابه الكرة على البيادر أو يذهب معهم لصيد العصافير. صار يجمعهم ليُحَدّثـَهُم عن آخر الأخبار، أو عن حكاية قــرية أو مذبحة، موضِّحا ذلك على الخارطة، أو كان يحدِّثهم عن عمليّة فدائية جريئة ناجحة، كمـا كان يُعـدُّ أخبارا يومية تتعلـّق بالقضية لتُـذاع في الإذاعة المدرسية.

حُكِمَ والد أحمد بالسجن لمدة سنتين، وكان الصغير يُصِّر على مرافقة أمـِّه عــند زيارتها له، كانا ينزلان بسيارة الأجرة من القرية إلى جنين، ثم يستقلاّن سيارة أخرى إلى الفارعة مرورا بقباطية وطوباس والزبابدة وبعض القرى الصغيرة الأخرى وصـــــولا إلى معتـــقل الفارعة، حيث يوجد والده، وكان يقول له في كلّ مرّة يــراه: سأنتـقم وأثـــأر لــك يا أبـتِ ولــكلِّ الشهداء والأسرى والجرحى من أبناء شعبنا البطل. ويـردُّ الوالد: أنـا متأكـِّد من ذلك يا بــــطـل. ألسـتَ البطلَ الصغير؟ وذات زيارة وفي طريق العودة، طلب أحمد من والـــدته أن يتجــــوّل في مخيم الفارعة، ليرى على الواقع كيف يعيش الأهل في المخيّمات، كما دخـــل مخيم جـنـين بعد الاجتياح، وبكى حين شاهد حجم الدمار الذي حـلّ بالمخيم.

وتمضي الأيام، والصغير يفكِّر بالانتقام، ويزداد حــــقده وإصـراره، كلمـّا رأى الجندي الذي كسر يده، يأتي مـع زمــيل له في سيارة جيب عسكرية، ويقـفان في ساحة القــرية، ويأخذان بمضايقة المارّين من رجال وشيوخ ونساء وأطفال. ويضحكون منهم ويستهزئون بهــم، ثم ينصرفون، ويعودون كلّ بضعة أيام.

ويقترب موعد الإفراج عن والد أحمد، والصغير يقترب من العاشرة، ونحــــن نقول عنه الصغير تجاوزا، فأطفال فلسطين يصبحون رجالا بعد الفطام مباشرة، أليسوا هم أبطال الانتفاضة، وأبطال الحجارة؟

وعصر أحد الأيام، سمعت أم أحمد، الطرَقات المعهودة على أعمدة الكـــهرباء، وأحمد ليس في البيت، لقد قال لها إنه سيذهب عــند صديقه سعــيد لــيدرسا معـا لامتحـــان الرياضيات. وهي لا تدري ماذا تفعل.

وقبل أن يستبـِدَّ بها القلق، دخل أحمد الدار وهو يلهث، واندفع إلى حضن أمـِّه يقبـِّلها وهو يقول بفرح يختلط بدموعه: لقد انتقمت. لقد ثأرت لأبي، ولنفسي، ولكلّ أبناء الشعب الفلسطيني، والحبل على الجـرّار.

قالت الأم، وهي تهزُّهُ بعنف: "ماذا فعلت؟"

قال أحمد: "كنت تسألينني أين أذهب بعد المدرسة، وأقول لك عند صديقي سعيد للدراسة، ولكنني في الحقيقة كنت قد جمعت الكثير من المسامير، وكنت أذهب كــلّ يوم إلى التلـّة المشرفة على الوادي أراقب الطريق، واليوم وحين رأيت سيارة الجيب العسكري الذي يأتي به الجندي الذي كسر قيثارتي ويـــدي قادمة إلـــى القرية، أسرعت فنثرت المسامير في رأس الطريق الصاعد إلى القرية، وكنت قد وضعت بعضَ الحجارة في الطرف الأيمن مـــن الطـــريق، ليضطر الســائق للانحراف جهة الوادي إذا وقع الحادث، واختفيت أراقب بين الأشجار. وحــدث مـا توقعت. كانت السيارة تصعد الطريق بسرعة كبيرة، وفجأة، انفجرت إحــدى عجلاتها، وانقلبت إلى الوادي السحيق، وركضت أجمع المسامير حتى يـَبـــْدُوَ الحادث عاديـا، إمـّا بسبب السرعة، أو انفجار العجلة. وجئت إلى البيت متسلّلا بين أشـجار الحوا كير، وحرصت ألا يراني أحد."

قبـّلت الأمُّ ابنها، وضمـّته إلى صدرها وقالت: "سلمت يداك يا أحمد، سلمت يداك أيها البــــطل الصغير، ولكن إيـّاك أن يعلم أحـدٌ بالأمر. وإن شعـبـا به أمثـالك يا أحمــد، سيحرِّر الأرض، ويعيد العزّة والكرامة للوطن والأمـّة."

D 1 نيسان (أبريل) 2009     A سليم الموسى     C 0 تعليقات