عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

عدلي الهواري

دلال وألم الذكريات


ارتجف سمير واصطكت أسنانه. غطته زوجته بأغطية إضافية. كان يتصبب عرقا طوال الليل. في الصباح، أصرت زوجته على أخذه إلى قسم الطوارئ في المستشفى. اتصلت بمكتب التاكسي وطلبت سيارة بأسرع ما يمكن. ساعدته على تغيير ملابسه. ثم انتظرا معا وصول التاكسي.

أوصلهما السائق إلى مدخل قسم الطوارئ. أجلسته زوجته على أحد المقاعد، وذهبت إلى ممرضة الاستقبال لتسجيل وصوله. بعد دقائق أجرى له ممرض فحوصا روتينية قبل أن يأتي دوره للدخول إلى عيادة أحد الأطباء المناوبين.

عندما حان دوره، نودي على اسمه، وأشارت ممرضة إلى الغرفة التي يجب أن يدخلها. دخل وزوجته الغرفة فوجدا فيها طبيبة شابة. رحبت بهما، وطلبت منهما الجلوس. وكما العادة في المستشفيات، عرفت الطبيبة بنفسها. قالت: "أنا الدكتورة دلال. الرجاء الاستلقاء على طاولة الفحص."

أراد أن يتأكد من الاسم الذي سمعه.

"عفوا، ما الاسم ثانية؟"

"دلال. سوف أجري لك بعض الفحوص لأقرر ما ينبغي عمله لك."

ألقى نظرة على الاسم المثبت على روبـها الأبيض. في تلك اللحظة أصابه أيضا ألم الذكريات، فليس كل الذكريات جميلة.

قبل ثلاثين سنة، كانت هذه الشابة طفلة في عامها الأول. لا تدري دلال أن هذا الكهل الذي تعالجه اليوم كان قبل ثلاثين سنة شابا نشطا. يوم كان طالبا تعرف على والدها، رمزي، الذي كان يدرس في جامعة أخرى في المدينة. جمعت بينهما نشاطات فنية لدعم الشعب الفلسطيني.

كان لوالدها أصدقاء كثر يزورنه في بيته. وكانت زوجته تحسن ضيافتهم، فهي ككل الزوجات العربيات اللاتي يقدمن الأزواج وتكوين الأسرة ورعاية أفرادها على كل شيء. كانت دلال ابنتهما البكر، وكان كل الأصدقاء يهتمون بدلال حبا بها وبوالديها.

توطدت المعرفة بينهما، فصار سمير يزور رمزي في بيته، وبدأت دلال تعتاد على وجوده. وفي إحدى الزيارات التي أعدت خلالها الزوجة طعام غذاء وجلسوا حول الطاولة، أصرت دلال على الجلوس في حضنه، وأطعمها بيده من طعام الأطفال الذي وضعته لها أمها على الطاولة.

عندما بلغت دلال عامها الثاني قرر والداها أن يقيما لها حفل عيد ميلاد، دعي إليها كل الأصدقاء والصديقات، امتلأت الغرفة بهم. شيء ما عكر مزاج دلال فبدأت تبكي بحرقة. لم تفلح محاولات أبيها أو أمها لإسكاتها. مشهد كان مؤلما لوالديها. الحفل لها، وأقيم لبث السعادة في نفسها وها هي تبكي بحرقة.

بدأ الأصدقاء والصديقات محاولات تهدئة دلال التي تحملها أمها وتهز ذراعها لتهز دلال لتهدئتها مثلما تفعل الأمهات اللاتي يهدهدن الأطفال. لم تفلح محاولات الذين حاولوا تهدئتها. وعندما جاء دور سمير ليحاول مدت دلال يديها نحوه ليحملها، وضمها إلى صدره. هدأت دلال وتوقفت عن البكاء، وبعد ذلك بدأت حفلة عيد ميلاد دلال الثاني.

في فترة لاحقة، نشأ خلاف في وجهات النظر السياسية بين المشاركين في النشاطات. سمير ظن أن الموقف السياسي المختلف لا يؤثر على العلاقات الشخصية والصداقات، وعندما حدث تصويت في انتخابات على رئاسة لجنة تنسيق النشاطات، لم يصوت لصالح رمزي. بعد إعلان نتيجة التصويت، تـبـيـّن أن رمزي لم يحصل على أي صوت. كان مستاء جدا إلى حد أنه لم يصوت لنفسه.

أدرك سمير في تلك اللحظة أن شرخا في العلاقة مع رمزي قد حدث، فنتيجة تصويت كهذه لا مجال للتخمين بعدها من صوت لرمزي ومن لم يصوت. لا أحد يستطيع أن يزعم أنه أدلى بأحد الأصوات المؤيدة لرمزي.

انسحب رمزي بعد ذلك من المشاركة في النشاطات. وبدأ سمير ينسحب شيئا فشيئا من حياة رمزي. بدأت الزيارات تتباعد، ثم قرر سمير الرحيل إلى مدينة أخرى، ومن يومها لم ير دلال أو والديها.

ثلاثون عاما مرت وها هي دلال طبيبة شابة تعالجه دون أن تدري من هو. أيقول لها إنه يعرفها ويعرف والديها؟ أيقول لها إنه أطعمها بيده؟ أيقول لها إنها مدت يديها إليه يوم عيد ميلادها وكفت عن البكاء بعد أن ضمها إلى صدره؟

راودته نفسه أن يقول لها ذلك، ولكنه خشي أن يكون شبحا من الماضي يجب ألا يظهر فجأة في حياة طبيبة شابة قادها نجاحها إلى العمل في أقرب المستشفيات إلى بيته.

قالت الطبيبة بعد أن أجرت الفحوص: "سوف أصرف لك بعض الحبوب لعلاج إنفلونزا الخنازير. هذا إجراء احتياطي، فبعض أعراضك من أعراض هذا المرض. عليك تناول الحبوب ثلاث مرات في اليوم."

كان بحاجة أيضا إلى حبوب لمعالجة ألم الذكريات، لكن الطب لم يتقدم بعد إلى هذا الحد.

D 25 تشرين الأول (أكتوبر) 2012     A عدلي الهواري: بحوث ومقالات وقصص     C 13 تعليقات

10 مشاركة منتدى

  • حين قمتُ بزيارةٍ طارئة؟ لم ترضَ سيدةُ الدار أن أقولَ ما أتيتُ من أجلِهِ وأنا على الباب. حَسَمَتْ أمرَها معي وقالتْ: لا أسمعُ أو أتحدثُ للآخرين وهم في الخارج..! أصرَّتْ وأسَرَني لطفُها فدخلت. كانتْ في ضيافتِها سيدةٌ شابة ذات حسنٍ ملحوظ، يتجلى في وجهها الأبيض وعينيها الناعستين.
    لم يمضِ وقتٌ طويل حتى استأذنتْ ربَّةُ المنزل لتعِدَّ لنا القهوة.. والفتاة تكاد تلتهمني بفضولها وعينيها الجريئتين! وفارقُ السن بيني وبينها يتجاوز عمراً بحاله.
    تَحَرّيتُ ثيابي ونفسي فلم أجدْ ما يستوجبُ جرأة عينيها..! هربتُ منها مراراً وأصَرّتْ على ملاحقتي، وحين فاضَ بي الأمر..؟ قلتُ لها "بوقاحةٍ" لا تقلُّ عن جرأتها: أشعرُ بالحرج والضيق، رُدِّي عينيكِ عني يا سيدتي!؟ تبسّمَتْ بعذوبة قائلة لي أنا رلى.. رلى حَدَّاد فهل نَسِيتَني!؟ "حَبَكَتْ" معي الإجابة فقلتُ لها آسفاً: قضيتُ عمراً بحالِه حتى تمكنتُ أن أنساك يا سيدتي.
    رلى هذه كانتْ طفلة صغيرة حينما تركَ أهلها منزلهم في الجوار بسبب الحرب الأهلية والفرز الطائفي المقيت.
    شكراً أستاذ عدلي على قصَّتِكَ المُعبِّرَة الجذابة.


  • نبقى على المبدأ، فنخسر الصديق، يرحل ويترك في الروح خواء، وفي القلب جرح، ونترك علاجه للأيام، حتى إذا تقابلنا تجدد الألم والحسرة على أيام مضت.
    شكرا دكتور عدلي
    كل عام وأنتم بخير


  • الصداقة كالكريستال لا يمكن اصلاحه ان تشقق ، وكذلك ذكريات الماضي لا يمكن ضمان تأثير استرجاعها،بل هي تعيش في أذهاننا بفعل الحنين لا غير ، فما مضى مضى بحلوه ومره ! تكمن روعة هذا السرد بواقعيته ونبض استرجاعه وبقوة الحنين المتدفقة والتي تحفل بالبراءة والعفوية ، كما ان تعليق ابراهيم يوسف عزز من الصورةوادهشنا كعادته بقصة مجازية مماثلة .


  • الأخ العزيز مهند
    متى توفرتِ الحوافز..؟ توفرتْ دواعي الكلام.. كل الشكر لك وللأخ الأستاذ عدلي، أكرمَكَ وأكرمَه الله


  • الذكريات على الرغم مما قد تثيره من ألم، فإن لها نكهة لذيذة ... تذهب حسرتها... وتبقى كطيف قد يسعد أو تسبب غصة.
    لو كنت مكان سمير لذكرتها بنفسي وأنني صديق أبيها رمزي ... ولا أظنها ستغضب ... فالجيل الجديد أكثر تسامحاً ومرونة من الجيل القديم.. وذكرياتها معه جميلة وربما لا تدري ما حدث وما سبب القطيعة بين الصديقين.
    ثم لم يغضب رمزي من سمير وهو نفسه لم ينتخب نفسه؟؟
    أظن أن دلال كانت ستكون جسراً جميلاً يعيد الصداقة بين المتخاصمين.... هي فرصة لم تفت بعد.
    أشكر أستاذنا الكبير الدكتور عدلي الهواري على هذه القصة التي أطلعتنا على جانب جديد من إبداعه وتألقه.


  • الى متى يظل الرجل يفكر عن الانثى؟؟ من اخبره انها ليست بحاجة الان ليد تمسح دموعها اكثر من ما لو كانت طفلة؟ من اين اتت فكرة انها لاتريد ان تخلع هذا الكفن الابيض الان وتلقي بنفسها على صدره لتخبره ماتخجل ان تخبره حتى لنفسها ؟ من قال له انها لاتريد ان تعود طفلة تاكل لقمتها من بين اصابعه وتتدلل عليه كالاطفال ؟ فقط لانه يخاف ان يوقظ شبحاَ في مخيلته يصور له الرفض حرمها مما كانت تتوق االيه بشده وتظن انها لن تجده عند رجل كالذي حكوا لها عنه انها عندما كانت طفلة كانت لاتسكن نفسها الا بين احضانه وهاهو بين احضانها ويحرمها حتى من فرحة اللقاء . انانية فاحشة ..


    • من أين تستقين أفكارك و أخيلتك؟
      انها تتمة رائغة للقصة لو أضيفت لها لزادتها ثراءا وألقا واثارة فوق ما هي عليه
      تحية تقدير استاذة هدى الدهان وكل عام وانت مبدعة

    • هنا اعارض الكاتبة المبدعة هدى الدهان تماما (وللمرة الاولى!)وأقول ان طرحها غارق بالرومانسية ولا يمت للواقع بصلة ، وخاصة عندنا نحن امة العرب اللذين يمعنون في التشكيك والتشويه ويخضعون "لتبوات" لا حصر لها تنغص علينا العيش الحياتي واليومي ، فالطفولة ولت ببراءتها لدى هذه الفتاة ، ويختلف الوضع الآن تماما ، وقد احسن الكاتب بتجاهل ما مضى واعتباره ذكريات أو حنين لذكريات مضت وولت ، فمجتمعاتنا قاسية وتقمع كل الرغبات حتى البريئة وتنظر للمرأة والفتاة والانثى عموما وخاصة ان كانت جذابة وجميلة نظرة شكاكة لا ترحم ، وتحد بالتالي من السلوك العفوي -التلقائي ، وقد اكون مخطئا والله اعلم !

    • إن كان سوء الظن من حسن الفطن..؟ لصَحَّ النظر إلى المسألة من زاوية مختلفة..؟ فمن يضمن للمريض مثلاً عند الكشف عن نفسه، ألاّ يتبادر إلى ذهن الطبيبة، أنه إنما طمعَ في التملص من الحق المالي الذي تتقاضاه.. بعدما كبرتِ الطفلة وكبُرتْ "إنسانيتُها" معها..!؟

      أو لعله وجدَ في الكتمان سبباً من شأنه أن يرفعَ منسوبَ العواطف في قلبه فآثرَ الصمت. ولو أعلنَ أيضاً عن نفسه..؟؟ فربما "سامحته وسألت عن أخباره، وبكتْ ببراءة الأطفال ساعاتٍ على كتفيه".. الحكم على المواقف الإنسانية النبيلة، أو حتى "الدنيئة" منها لا ترتبط بقاعدة أخلاقية محددة.

  • ربما عذبتها الذكرى في طفولتها كثيرا دون ان ينتبه لها احد. فالاطفال عادة هم اشد تعلقا بذكرياتهم مع الاشخاص اكثر من الكبار.

    اما هو فربما لم تكن ذكراها تطفو على باله الا ساعة سمع اسمها،عندها صحت فيه ذكريات لم تكن تؤرقه يوما.

    فألم الذكريات في القصة لو نسب للبنت! لو هي من عرفت اسمه و شكله الذي لم يتغير كثيرا على عكسها هي، دون ان يتعرف هو عليها، لكان الموقف ربما أقوى..

    مجرد وجهة نظر لا تنقص من جماليات القصة ومتعة القراءة فيها.
    تحية لقلمك الراقي استاذي عدلي الهواري


  • شكرا للأخوات والأخوة الذين علقوا على القصة. التعليقات تؤكد الرأي القائل إن القارئ/ة كاتب/ة أيضا. من المؤكد أن أي قصة يمكن أن تكتب بشكل مختلف، وأفضل. ولكن حتى لو كتبت بشكل مختلف، فهذا لا يعني أنها الصيغة الوحيدة الأفضل. سيبقى الحكم لكل قارئ/ة على حدة. تحياتي لكم/لكن جميعا.


  • تحية طيبة. بعد أن قرأت القصة -وبدافع الفضول- قرأت جميع التعليقات الواردة، تذكرت "لامارتين" حين أنشد قصيدته "البحيرة" أمام مجموعة من النقاد، فبدأ كل واحد منهم يصدح بما فيه، حينها قال مقولته الشهيرة: "أنا لم أكن أقصد هذا في قصيدتي، لكني سعيد أيما سعادة لأني استطعت أن أقول كل هذا" (يعني كل ما تفضلتم به). إذا كان نتشه يقول دائما بأن الأغلبية الصامتة تصنع ضجيجا، فنحن نقول بأن الأعمال الجيدة تصنع ضجيجا، لكنه ضجيج رائع له وقع طيب، وأثر أطيب، هنيئا لجميع القراء الذين التحمت نفوسهم بشخصيات القصة متماهية فيها حدّ الذوبان، تجلت فيما طرحته من بدائل ومن تصورات.. دمت وقلمك تسطران في الآفاق خارطة التميّز د. عدلي.


  • تحية طيبة دكتور هذه القصة مثيرة للجدل رغم لغتها المباشرة وأسلوبها الهادف إلى توصيل الفكرة لكنها حفزت المتلقين لقراءات متعددة بما يكمن في نسقها المضمر من أفكار وهذا دليل على نجاح القصة في إيصال ما أردته من أفكار وأبعاد اجتماعية .


في العدد نفسه

تهنئة بعيد الأضحى

عن مبدع الغلاف

كلمة العدد 77: الديموقراطية وفرضها بالقوة

كتاب: المناهج التربوية بين الأصالة والمعاصرة

آسيا جبار: سردية القصة والفيلم