عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

زهرة يـبـرم - الجزائر

على شرفة الوحدة


ظلت ترقبه حتى غاب في المنعطف بين البنايات في آخر الطريق. جميعهم مروا من هناك على نفس الدرب. كانت في كل مرة تقف على الشرفة تشرف على المنعطف وهو يبتلع ابنا من أبنائها الأربعة. ابتلعهم أربعتهم واستقروا في جوفه الواحد تلو الآخر، واليوم ازدرد آخرهم وأصغرهم. مساحة الظل الأخيرة التي كانت تتفيأ تحتها قد غزاها الهجير.

أمطرت عيناها فاختلطت دموعها بماء المطر المنهمر على وجهها، لينزل الخليط فيسقي محابس النعناع والحبق المعلقة على الشرفة المتكئة عليها. نباتات عطرية زرعتها وإياه يدا بيد في يوم تميز بقليل من السعادة.

ظلت وحيدة في غابة اسمها الحياة. مضوا ومنحوها منفى تتلمس فيه أيامها وتحاول أن تطرد من عمرها ما تبقى من سنين. نظرت إلى وجهها في المرآة فرأت خطوط جبينها المتغضن وخارطة صماء تمتد من قلبها حتى أحلامها الضيقة، وبدا أنين الفراق يتصاعد من روحها ويتشكل وجعا على محياها.

كان بيتها مترعا بهم. عاشت منتشية بحبهم حتى لكأنها هي منبع الحب الأصيل. كانوا كالنبات اليانع في بستان قلبها تسقيهم كالغيث فيزدادون ترعرعا ونماء. النظر إليهم يريح نفسها وقلبها ويغمرها بالنشوة والفخر وهي تراهم يكبرون ويتفتق الوعي فيهم عاما بعد عام .

عاشت بين التفاؤل والامتنان لله، تسكن سحبا مشبعة بالآمال والأحلام حتى أفاقت على الصغار وقد كبروا وشبوا، وكفراخ نبت ريشها وقويت أجنحتها انفلتوا من العش وطاروا بعيدا في سماء الله الواسعة باحثين عن الضياء والقوت. منهم من استقل بنفسه، ومنهم من سافر للدراسة وخلا البيت منهم.

طوقتها الوحدة وسكنها الصمت حتى لكأن للصمت ضجيجا وهو يطحن عظام السكون. صار لها عالم هي وحدها فيه. تعود إلى نفسها كلما قست عليها الوحدة. تسهر وحدها، تبكي وحدها، تضجر وحدها وتنام وحدها يحضنها الحزن مرغمة.

تعودت الارتباط النفسي بهم والاتكال العاطفي عليهم فلم تستطع الاستمتاع بالحياة بمفردها. لم يعد لها ما تتكئ عليه غير أخيلة من الماضي. لم يبقى لها من تتبع خطوه أو يتبع خطاها غير ظلها. لا مفر لها من مصادقة الوحدة وهي تتمسك بما يسمونها حياة كي لا تترك نفسها تنزلق نحو اليأس. تبحث في عمق الأشياء من حولها لتستشف معنى أن تحيا، فوجدت نور الله في قلبها فتيلا لا ينطفئ.

ظلت الأزمات حبيسة في قلبها، كلما سنحت الفرصة تفقد توازنها وتبكي. أصبحت جلادا لنفسها. كأن أيامها مصنوعة من حجارة ملضومة كعقد، تمر عليها متتابعة متشابهة كمتتالية عددية رتيبة، سلسلة لا تتوقف وعودتها إلى الوراء مستحيلة. يتغير كل شيء من حولها إلا هي الثابت الوحيد في المكان. باتت تنافس"بينيلوب" في الصبر والانتظار. تقف على الشرفة كل صباح، ترقب منعطف الطريق، تغسل وجهها بدموعها وتسقي محابس الحبق والنعناع.

حضرت لنفسها كوبا من الليمون الهندي وجلست إلى مكتبها أمام ورقة عذراء وراحت تفرغ ما غزاها فجأة كالوحي فملأ رأسها. وكشاعرة تهيم في أودية القوافي دون أن يسبق لها أن سبحت في بحور الشعر أو خبرت الأوزان كتبت:

أينما أروح لا أجد مكاني

كروح مطرودة من رحمة الرحمان

كقصيدة خديجة بلا معاني

كيتيم يبحث عن عطف إنسان

مثل الميزان اختل اتزاني

ارجع ليغمر قلبي ثواني

عطر أعرفه من زمان

ويرجع إحساسي بدفء مكاني

لكنها عزفت عن مواصلة الكتابة فهي لم تخلق لتكون شاعرة.

مسحت الغبار عن الحاسوب ولجأت إلى العالم الافتراضي المجنون تبحث عن الأنس. دخلت لموقع ما بهدف ما، فسلمها هذا الموقع لآخر، ثم الآخر ما لبث أن سلمها لآخر وهكذا وجدت نفسها ككرة تتقاذفها المواقع والوقت يمر بلا هدف، وهي تتسكع في عالم جذاب لا محدود، حتى صديق الدردشة الأوحد الذي تطمئن إليه دون غيره حول الصداقة إلى حب، فأجابه لسان حالها: عن أي حب تتكلم أنت الآخر وأنا كبومة ينعق في عشي الخراب؟ أغلقت الحاسوب وأنهت تسكعها الافتراضي، وكنقرة على الذاكرة قررت أن تتسكع في ملكوت الله.

التسكع ليس سلوكا سلبيا كما يدينه المجتمع، بل سياحة فكرية وروحية وتأمل العقل المفتوح على الدنيا. هو تجوال الجسد والروح والفكر، هو الهدوء والصحو والتأمل، هو البحث عن معنى لكل ملمح في وجوه البشر، هو تنمية استقلالية النفس والاستمتاع بالحياة بشكل فردي للتصالح مع الذات وتبديد الشعور بالغربة حيالها والقبض على العمر والإمساك به من التبعثر والضياع بين أمواج البشر.

بدأت تتهجى طريق الرجوع إلى ذاتها. وقفت أمام مرآتها تسألها وتتوسلها أن تختار معها ما ستلبسه. فقد صممت أن تبدو أنيقة كما لم يكن يهمها مظهرها من قبل. معطف باذنجاني اللون وشال بنفسجي تماما كلون إطارات نظاراتها الطبية، وحذاء أسود نصف كعب يوائم سنها. أحبت نفسها بهذا التدرج في الألوان وخرجت إلى شوارع مدينتها تتأمل الحياة.

تمرد الحزن عليها فآلت على نفسها أن تضاهيه في التمرد. خرجت من روتينها اليومي كما الفارّ من السجن إلى غابة الحياة. كالقطار يخرج عن السكة الحديد بلا عوائق. قادتها قدماها إلى معرض النباتات والزهور، فولدت لديها فكرة كموجة ولدت من البحر بالريح تتعلق لتصل إلى الأرض. فكرة تطير بحرية فوق الجبال تجهل الحواجز والحدود. ستزرع في العدم حقل زهور. حديقة منزلها أرض بور منذ سنين تعمرها النباتات العشوائية والأشواك.

وثقت بفكرتها التي عبرت خيالها كرؤية قابلة للتنفيذ. فكرة كأنما اخترعت في قصور الأندلس أو مستوحاة من حدائق بابل.

صممت حديقتها واختارت الشتلات والبذور وأنواع الورود. نطق الخيال فصدقه العمل ليظهر واقعا يعرق الطريق المؤدية إلى القلب.

لكأن النهار كان بانتظارها، فبدت لها السماء أكثر اتساعا، والشمس مبتهجة كعصافير الكناريا يغازل شعاعها الورد والياسمين. تولد العسل تلقائيا في أزهار الزنبق والقمر والهويا، وارتفع الصبار يكابر في شموخ. أمسكت خرطوم الماء وراحت تسقي حديقتها منتشية بأصدقاء من عالم النبات حين تذكرت زهرة الأوركيد في ركن الحديقة، إذ تتوقع أن تكون برعمتها قد تفتقت هذا الصباح عن زهرة لا تدري لونها، غير أن بائع الشتلات رجح أن تكون بنفسجية. كم دهشت حين شاهدت زهرة بيضاء تضحك للشمس! فالإنسان وحده يولد باكيا.

فيما كانت تحدق في أوركيدتها الوليدة، أحست بوجود شخص ما في حقل رؤيتها المحيطية. ذهبت ببصرها نحوه. رجل كان يرقبها من خلف سور الحديقة. صرفت نظرها عنه وعادت تسقي نباتاتها وقد جلب انتباهها الزي الذي يرتديه، لكأنه من "التوارق" سكان الصحراء.

انخطفت وهي تسمعه يناديها باسمها: "حبيبة". الصوت مألوف لديها، لا بل حميمي. رمت خرطوم الماء الذي راح يغرق الأرض وسارت نحوه بخطى كأنما تسير بها نحو الوراء وهي تشحذ ذاكرتها وتعدل من وضع نظاراتها لتدقق وتتحقق من ملامحه. اتجه بلهفة نحو البوابة لملاقاتها. وقفت على بعد خطوات منه وصاحت بصوت يجلد السمع: "كريم؟" وهوت فاقدة وعيها ليتلقفها بيديه إلى صدره.

لم تصدق أن سجين "رقان" قد عاد إليها بعد عشر سنوات من الاعتقال السياسي غير المبرر. قالت: "كم كبرت وتغيرت يا كريم!" قال: "أما أنت فما زلت كتلك الزهرة البيضاء في ركن الحديقة".

D 25 كانون الثاني (يناير) 2013     A زهرة يبرم     C 15 تعليقات

8 مشاركة منتدى

  • زهرة يبرم - الجزائر

    خطرت في بالي أغنية وأنا في بداية الموضوع. يجب الاعتراف أنها "سمفونية" وليست أغنية عادية. ناظمها الشاعر المصري، مرسي جميل عزيز ويقول في بعض مقاطعها:

    أين ما يدعى ظلاماً يارفيق الليل أينـا
    إن نـور الله في القلـــــب وهـذا ما أراه
    إن أردت السر فاسأل عنه أزهار الخميلة
    عـمرها يوم وتحـــــيا اليوم حتى منتهـاه

    عندما تفقد الغربة معناها يفقد الحنين معناه وتخسر الحياة طعمها.
    على شرفة الوحدة نص فيه نفحة وجدانية رقيقة توحي بالأغنية والشعر.. ولكن ليتها اقتصرت على النثر فحسب.


  • زهرة يبرم

    والضدُّ يُظهِرُ حسنَهُ الضدُّ

    لأن الشعر ليس تقطيع وأوزان..؟ هكذا بدا النص مشرقاً يوحي بالغناء والشعر الحزين


  • قويّ هو من يتمرّد على الحزن، فيمنح نفسه القدرة على الاحتمال ويرسم لذاته خطوطاً من الأمل البعيد القريب.

    جميل هذا النص سيدتي ويبعث في النّفس بعضاً من الرّجاء.
    تقبلي مروري

    محبتي واحترامي


    • الاستاذة مادونا عسكر

      الحزن أمر طبيعي وهو ردة فعل مباشرة لاإرادية تجاه ما يحدث للإنسان من أمور لا يتقبلها، لذا لا يلام الإنسان على حزنه إلا إذا طغى الحزن و تمادى ليتحول إلى يأس و هذا هو العجز والإستسلام. ولا يخرج من الحالة إلا ذو الشخصية القوية و الإرادة الصلبة.

      أشكر لك رقة حضورك سيدتي، و جمال إطرائك
      شرفت نصي المتواضع وملأت قلبي سرورا
      تحياتي وودي

  • الصديقة زهرة
    هذه المرة ورغم الحزن الذي خيم على النص فقد رسم على وجهي البسمة في النهاية، تمنيت لو أطلت قليلا في حديثك عن السجين العائد
    لمسات مميزة أضفتيها للنص، تعطيه طابعا خاصا جدا
    المتتالية العددية، واللباس الأنيق المتدرج الألوان!
    النص جميل
    وفي مجلتنا أوركيدة بيضاء تستحق العناية

    تحيتي وتقديري


    • أشواق مليباري
      صداقتك تاج على رأسي

      حمدا لله أن وفقني في هذا النص و إن لم يكن لي من توفيق إلا ارتسام بسمة على محيا أشواق لكفاني. أما عن السجين العائد فلولا أن من شروط المجلة عدم الخوض في السياسة لخضت في سبب اعتقاله وظروف و ملابسات ذلك، أو لخصصت جزءا ثاني للقصة أتحرر فيه من هذا القيد.

      أعترف لك بالفهم الدقيق والتدقيق و الإستنتاجات وهذا لا يكون إلا لعقل رياضي.أشكر لك المرور المبهج و الإطراء الطيب و أتساءل ما قصة أزهار الأوركيد التي تلاحقني؟

  • نصك حرَّكَ عواطفي وأثار أشجاني وذكرني بقول جبران
    "إن أولادكم ليسوا لكم
    إنهم أبناء وبنات الحياة المشتاقة إلى نفسها،
    بكم يأتون إلى العالم ولكن ليسوا منكم.
    ومع أنهم يعيشون معكم فهم ليسوا ملكاً لكم."
    إنه أمل جديد يبث الروح في زهرة بيضاء متفتحة باسمة لمعاني الحياة
    الأوركيدية من الأزهار الجميلة يا صديقي، حينما تتميز بلون بنفسجي بديع
    نص رائع بسرده وتفاصيله، لامس قلبي وأفرحه بعودة الغائب الحبيب


    • مرحبا أيتها الصديقة

      عرفتك مرهفة الحس رقيقة المشاعر، وكأني بالنص و قول جبران قد تحالفا عليك ففاضت منك عواطف الامومة وأثيرت أشجانك.
      علينا ان نبحث في الحياة عن انبثاقات الضوء، فالحزن و اليأس يقتلان الفضائل في النفوس و يميتانها، وتحيا النفوس بالأمل لا بل تخلق من جديد.

      تحياتي لك يا أنيقة الروح و المفردة
      دام تواجدك الرائع و البصمة الالقة

  • "وقفت أمام مرآتها تسألها وتتوسلها أن تختار معها ما ستلبسه، فقد صممت أن تبدو أنيقة كما لم يكن يهمها مظهرها من قبل".

    أكد علماء النفس أن الإهتمام بالمظهر يؤثر كثيرا في شخصية الإنسان ويجعله في حالة مستقرة بالمقارنة بما إذا كان لا يهتم بمظهره، وهذا ما أشرت إليه بذكاء.

    شكرا على النص المشرق بالأمل


  • زهرتِي الجميلة، دعينِي أولاً ألومُ نفسِي لأنّي تأخرتُ في ولوجِ هذه الحديقة التي غرستها أملاً وتفاؤلاً ومضاداتٍ حيوية ضدّ الحزنْ،

    لقدْ دخلتُ من تلك الشرفة منذ الحرف الأول، وشاركتُ حبيبة كلّ تفاصيل حزنها ووحدتها،هي في الواقع لم تكن وحيدةً،فقد شاركناها كلّ شيءْ،
    حتّى ذلك الأمل الّذي انتزعته في النهاية من الحياة بفضل تمردها على الحزن كان لنا فيه نصيب.ما أجمل الأمل حين يكون نهايةً لحزن كبيرْ..

    أبدعتِ أيتها الزهرة، أمنياتِي لكٍ بالتألق دائماً.وسعيدةٌ أن أكون من بين كلّ الذين يقرأون لقلمكِ العذبْ..تحياتِي.


    • غانية الوناس ابنة الجزائر
      والجزائر هاهنا من جهة الشمال زاوية ومكان.. في القلب.. تكون الجزائر..

      لا تلومي نفسك عن التأخر، أمامك العمر كله لتقرئي لي ، و مرحبا بك على شرفة الوحدة تحت رذاذ المطر و المكان يعبق بأريج الحبق و النعناع، و على مدى البصر يمتد المنظر الجميل لروسيكادا، و حبيبة في حديقتها تغالب الحزن فتغلبه في شموخ كنبات الصبار، وللخيال حكايا اخرى ...

      شكرا غاليتي على الإطراء، لديك حاسة جميلة لفهم ما تقرئين و التعليق عليه. دمت و دام تواجدك في مساحتي.

  • ((الشرفة تشرف على المنعطف وهو يبتلع ابنا من أبنائها الأربعة... الواحد تلو الآخر)). إنها جملة حُبْلى باستعارة توجز مأساة امرأة في خريف عمرها وقد فارقها الأحبة، فغدت الشرفة نافذتها على غابة اسمها الحياة، والمنعطف دربها الذي "ابتلع ويبتلع" الأحبة، وظلت متأرجحة بين الوحدة والبحث عن الأنس، بين الحياة والموت، التفاؤل والامتنان، والآمال والأحلام... لكنها لم تنكسر. بحثت عن التجديد بالرغم من أنه ((لم يعد لها ما تتكئ عليه غير أخيلة من الماضي ... فوجدت نور الله في قلبها فتيلا لا ينطفئ))، وقد هداها وهي تتجول في ملكوته إلى مشاهدة ((زهرة بيضاء تضحك للشمس!))، فأدركت أن ((الإنسان وحده يولد باكيا))، وقررت أن تمارس لعبة الحياة وتجددها، فزرعت حديقتها بالورد والياسمين... وما كادت زهراتها تطل على الحياة حتى أطل عليها الغائب "كريم"... هكذا انتقلت بنا زهرة يـبـرم عبر دروب الحياة، ورسمت بعباراتها المشرقة واستعاراتها الجميلة إشراقات الأمل في النفس... "لكن ليتها اقتصرت على النثر فحسب" كما قال السيد إبراهيم يوسف، لأنها لو فعلت لظل الانسجام بين فقرات النص وحبل السرد متصلا.


    • الأستاذ الفاضل محمد علي حيدر
      صاحب رواية "المقامات العنكبوتية"

      أشكر مرورك النابض بالحيوية والصدق سيدي، وهذه القراءة المتأنية في نصي الخجول. و قد زادني حضورك شرفا وأسعدتني بهذا التعليق المبهج.

      لاحرمني الله طلتك النقدية، ولك مني عظيم الشكر وجزيل الإمتنان، مع المودة والتقدير.

في العدد نفسه

عن مبدعة الغلاف

كلمة العدد 80: العدالة الاجتماعية ونهاية التاريخ

دعوات توحيد الفصحى والعامية

قراءة في قصّتين

إبراهيم يوسف: مبادرة تكريم