عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

زهرة يبرم - الجزائر

أشجار باللون الأزرق


زهرة يبرمفي عمق أريكة مخملية جلست شمس أمام مدفأة تتأمل حفيدها وهو يزين رسوماته بألوان زاهية. وكلما سألها عن لون إن كان يناسب جزئية ما من رسمته، توافقه أحيانا، وأحيانا أخرى تختار له اللون المناسب لكنها تجانب اللون الأخضر بجميع تدرجاته. وما تلبث أن ترفع بصرها وتحدق بنظرة فارغة في اللاّشيء، نظرة المُسَلَّمين لأنفسهم يعيدون حيواتهم بدواخلهم يجترون تفاصيلها.

وتبقى ساهمة مسمّرة على هذا النحو بنظراتها الحازمة ووجهها المستدير الرزين دون أن تظهر على شفتيها الرقيقتين أي ابتسامة، ولو ابتسمت لبدت أكثر جمالا وشبابا.

لها اسم آخر بشهادة الميلاد، أما شمس فقد كنّاها به والدها خلال فترة حرجة مرت بها الأسرة، فكانت شبيهة الشمس، تشرق عليهم دفئا وحنانا ورعاية.

حياتها كابنة مجاهد خاض حربا قديمة، وأرملة مقدم أول قتل في العشرية السوداء، ووالدة نقيب شاب ترافقه أينما حل في تنقلاته المستمرة، أكسبتها صلابة عسكرية. صهرتها قسوة الانضباط من حولها، فجفت طباعها حتى أنها نادرا ما تشتكي. ولما قدّر لابنها الوحيد أن يترمّل، أنار وهج شمسها يتم طفله حيث تكفلت برعايته وتربيه.

وها هي مع انصراف ابنها إلى عمله المثقل بالمسؤوليات والتنقلات صارت تطمح إلى الاستقرار مع الصبي في مدينتها الأم. تريد أن تُصدِّع جدار الرتابة الذي يطوقها، وتصنع لهما حياة مدنية مختلفة.

سئمت الحياة بلون واحد تراه في كل شيء حولها. حاجز المرور أخضر، السور المسيج للمساكن أخضر، البوابة والسيارات، أبواب الغرف وستائر النوافذ، ملاحف الأسرة ومناشف الحمام، البذلة والحذاء وحتى صحون وأكواب المطبخ. تشبعت بالأخضر عبر ثلاثة أجيال حدّ الغثيان.

مع الحفيد انبثق بقلبها شعاع باهت ينير يتم طفل في الخامسة من عمره، أيقظ فيها الأمومة فعادت تحلم مكسّرة رتابة أيامها. لكنها صارمة في مهمة تربيته صرامة نقيب مكلف بتدريب المجندين.

ركزت نظرها عليه وهو لاه بالتلوين، طفل نحيل له وجه فتاة رقيق ووجل، تأْمَلُ أن تصنع منه رجلا على هواها، مختلفا عن كل رجال حياتها. ترغب في أن يدرس وينجح في تخصص مختلف بعيدا تماما عن الحياة العسكرية التي عاشها آباؤه. تريد له عالما بديلا عن هذا الغارق في اللون الأخضر، يكون فيه سيد أوقاته وسلوكاته وتنقلاته وخياراته في الحياة.

وراحت تحلم فيطفو حنو على محياها الصلب المنغلق، ويتوهج قلبها المتـيـبّس فتشع منه بارقة نور. صار الحفيد رجاءها الوحيد تغذيه حاجتها لحياة فسيحة في متطلباتها بهيجة في قيمتها.

وصحت من غفوتها على الصغير يُريها رسمتَه المكتملة، فوجدت أشجاره زرقاء بلون البحر، وأوراق أزهاره بلون السماء.

D 1 كانون الأول (ديسمبر) 2018     A زهرة يبرم     C 1 تعليقات

1 مشاركة منتدى

  • تحية خالصة أولا لمجلة ((عود الند)) التي تفتح ذراعيها للمبدعين العرب في كل مكان، ونفتخر بهذه المجلة الرائدة والتي تصدر في بريطانيا. ثم والشكر للمبدعة زهرة بيرم على قصتها البديعة والإنسانية، قصة جميلة، ولو أن بها بعض التعجل في آخرها، أو بعض المقاطع الإخبارية، ولم تلمح كيف أن الطفل جعل رسمته باللون الأزرق، مع أنه يعيش في أجواء كلها باللون الأخضر، وأين نقطة التأثير والبؤرة في تغيير مستقبل حياة الطفل؟ لكنها قصة ممتعة بمجملها، بروح إنسانية وحب شفاف مخلص، يعكس الوفاء والقدرة على احتمال الجهد في سبيل الصبر على الطفولة والتربية الجيدة. شكرا زهرة، نعتز بك وبمجلتنا (عود الند).


في العدد نفسه

كلمة العدد الفصلي 11: الاستفتاء الذي شرخ المجتمع

قراءة في قصيدتي رثاء بغداد والبصرة

لا تبك يا سندريلا

المحتال

مختارات: أزمة وكالة الغوث، الأونروا