عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

محمد صالح البحر - مصر

رجل كبير بحجم قطعة الشوكولاتة


محمد صالح البحرلم تتسع مخيلتي لأكثر من هذا، أن أفرد ذراعيّ عن آخرهما، وأن تثب القدمان لأعلى لأقف على أطراف أصابع قدميّ فوق سور السطح، ومع الارتفاع الشاهق للعمارة التي أقطن بها ستبدو نظرتي أكثر عمقاً، بحيث تظهر الأشياء صغيرة جداً، وفي حجمها الطبيعي.

لم أستعذب فكرة الطيران إليها من قبل، ليس لأن مريم لا تستحق ذلك، لكنني رأيتها فكرة رومانسية بأكثر مما تحتمل علاقتي بها، ففي المرحلة التي تعقب تشبُّع الجسدين بمتعتهما الحسّية، حيث تتكشف كل الكهوف المختبئة من خلف ستائر الأقمشة التي تراصت فوق بعضها، لتطلق نمورها الجائعة إلى حد النزق، وبلوغ ذروة الأوقات الخاصة ـ يعم هدوء شديد، عادة ما يكون بطعم البرد، ومذاق الرغبة في الانصراف إلى حدائق أخرى، تبدو فيها رغبة البحث عن طرائق مختلفة وسريعة لملء الأمعاء المجهدة أقرب بكثير من رغبة البحث في بدائل قد تمتلك القدرة على تجديد الاشتياق.

لمريم سبعة أيام من تكرار الأوضاع التي بدت اعتيادية، ممارسة العادات التي بدت نادرة ومملة، ومجاهدات ظننتها صادقة للتجدد والعودة إلى نقطة البدء، ولها أخيراً استحالة تكرار الأيام السبعة بنفس مسمياتها القديمة بعدما نسيتْ طعم الشكولاتة في فمي، غير أنني لم أكن أدرك بعد أن لها في كهف الذاكرة المختبئ عن عينيّ عشق مولانا الإمام لـ "لطائف الأسرار" و"الفتوحات المكية".

المسافة الشاسعة بين نظرتي والأرض هي ما كنت أعتقد أنها تفصلني عن مريم، وهي ذاتها التي تم اختصارها في مسافة الخطوة بيننا، في السيارة التي لم نكن نعرف من أين بدأنا رحلتنا فيها، ولا إلى أين سينتهي بنا مسيرها. لكن النظرة التي فشلت في إسدال الغطاء على عينيها، والابتسامة التي فشلت في الاختباء رغم صمتها، ألقتا بنا إلى السير في هدوء على أرض واحدة، وكانت الطريق ممهدة مرة وموحلة مرة.

ثلاث خطوات فقط تبقت لمريم حتى تصل إلى باب الغرفة المغلق، لتتأكد من الهمهمة المهمومة التي سمعتها في إيقاع سريع ومنتظم، واستطاعت أن تميز صوتي من بين ثنائيتها المشتبكة في لحظات انفلاتها من الإيقاع، للخروج إلى الألفاظ التي طالما وصفتها مريم بأنها بذيئة، ولا تتناسب مع جلال اللحظة، وصفوها الرومانسي.

لماذا استجابت أُكرة الباب للدوران في يدها؟

لو أنها امتلكت إرادتها مثلما فعلتْ معنا من قبل، وفي أوقات كثيرة كنت ومريم خلالها نتسابق ملهوفين للوصول إلى جنة الجسد، لكنها أبقتنا أمامها كتلميذين خائبين ومشردين، يتمرغان في بلاط الصالة.

لو أنها امتلكت ضميرها للستر على رجل أتعب نفسه في البحث عنها، وأتعب عينيه في التدقيق حائراً حتى وقعتا عليها، فاختارها من بين عشرات الأُكر الأخرى، التي ظلت تضوي ببريقها باكية على عدم اصطفائها، وهم يرونه بعين خيالهم كيف يعتني بها كل يوم، ويجعلها مفتاحاً لجنة جسده الخالدة.

لو أنني انتبهت جيداً لنظرتها الخاطفة التي رمقتني بها عند ولوجي بزهرة إلى ذات جنة الجسد التي تقبع من خلفها، لوقفتُ منبهاً إياها أن رجلاً طعم الشكولاتة يحمل بين شفتيه ليس له أن يستكين للتكرار أو الملل أو الراحة، وأن عليها أن تتفهم ذلك جيداً لتضعه في رؤيته الصحيحة بحيث لا يصير أمراً شخصياً، أو قريباً من مفاهيم الخيانة، لكن الفرحة التي اتكأت عليها شديداً ألهتني، وجعلتها تستجيب للدوران في يد مريم التي رفضت أن تنظر لنفسها في تلك اللحظة، ووقفت مأخوذة ومدهوشة ومنخلع قلبها من حميمية المشهد العاري.

كنت وزهرة قد وصلنا إلى تخوم العشق التي تُغرق مَنْ يصلها في بحره المتلاطم، ولم تكن الأمواج قد هدأت بعد، بالكاد كنا نلتقط حبل أنفاسنا اللاهث محاولين كبح جماحه، وقد اتكأت زهرة برأسها بعيداً فيما تمدد فخذاها فوق بطني، لكننا لم نكن كذلك في عينيّ مريم، كنا مثل عاشقين قطعا لتوهما حبال العشق بعشوائية مجنونة، ذكرتها بجنون العشق الذي تبادلناه طويلاً قبل أن تنسى طعم الشكولاتة بين شفتيّ، وبعد أن نسيتْ تماماً أنني لن أتخلى عنه في يوم من الأيام.

وراحتْ تحاول بجهد شديد رأيته في عينيها استبيان كيفية وصولنا للوضع الأخير الذي ترانا عليه الآن، وحين تأكدتْ أنها لم تحياه معي، أن ثمة طقساً جديداً للعشق قد فاتها خلسة دون أن تدري، قامت قيامتها، قرصت بكل عزمها على أُكرة الباب لتخبطه من خلفها للدرجة التي أحدثتْ صخباً هزَّ كيان الغرفة كله، كاسراً صمت المشهد الذي لعبت فيه الرؤية فقط دور البطولة المطلقة.

لا أنكر أنني أردت الذهاب خلفها، أن أشرح لها بكل الصدق أنني لا أعرف كيف وصلت مع الزهرة إلى هذه التخوم اللانهائية، لكنني أدركت في ذات اللحظة أن ذلك سيبدو تعبيراً صادقاً أيضاً على أنني عشت اللحظة بكيان حقيقي، أنني انغمست في روح اللحظة الجسدية بعمق كانت ستكرهه مريم للدرجة التي تؤهلها لامتلاك الاستحقاق الكامل في إنهاء العلاقة، لذلك فضلتُ العودة إلى صمت المشهد الذي بدا جميلاً، خصوصاً بعد ذهاب صخب دوي الباب، وعودة الجميع إلى النظر بهدوء شديد داخل ذاته لإعادة ترتيبها.

الرومانسية تنفعنا في الخطوة الأولي، لنحيا بها الخطوة الثانية، لكنها في الخطوة الثالثة وما بعدها ستنهار تماماً في مواجهة متطلبات الجسد، إن هي عجزت عن إقامة جنته الدائمة، المتجددة.

فوق سور سطح العمارة العالية، التي أقطن بها، أقف على أطراف أصابع قدميّ، رأسي مرفوع في مواجهة السماء، وذراعاي مفرودتان عن آخرهما لاحتضان أكبر قدر ممكن من الهواء الطلق، أشعر أنني خفيف للدرجة التي تؤهلني للطيران بحرية مطلقة، وأدرك أنني رجل كبير بحجم قطعة الشكولاتة التي أحبها، وحين تأكدتُ من طعم الحرية في فمي عشقتُ الطيران إليها، ليس مهماً لأعلى أو لأسفل، فالتجربة ليست محاولة للكسب أو للخسارة، بل محاولة حثيثة للمعرفة.

وأنا أطير تراءت لي حقائق كثيرة، بعضها قريب وبعضها غائم، لكنها توالت مثل شريط سينمائي لا يكف عن التدفق وإثبات الوجود، اليد العليا التي تحاول تشكيلنا في مقابل توقنا الشديد للحرية، الأبواب التي علينا اجتيازها خلال رحلة الحياة في مقابل الحياة نفسها، آدميتنا وحيوانيتنا هما تناقض اللحظة الواحدة بداخلنا، ترجمة أسرار الرحلة من البدء إلى المنتهي، لكن ستظل هناك دائماً تشكيلات غاية في الروعة والدهشة يمكننا خلقها من تشكيلنا البسيط المعهود، فقط لو أننا راقصنا الحياة كما ينبغي.

D 25 كانون الثاني (يناير) 2013     A محمد صالح البحر     C 0 تعليقات