عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

سهام إدريس - فلسطين

قراءة في رواية صمت الفراشات


تلخيص وتحليل لرواية "صمت الفراشات" للكاتبة الكويتية ليلى العثمان

تلخيص الأحداث

تحكي الرواية قصة نادية، ابنة التسعة عشر ربيعاً، التي يتم تزويجها على غير رغبتها، من رجل ثري في الستين من عمره (زوجةً ثالثة)، تقارب في عمرها أعمار أبنائه أو قل أحفاده.

أُمها، زينب، حلبية الأصل. تزوجت من أبيها، محسن، الشاب الكويتي الذي كان يتردد مع عائلته على الشام، حيث تعرف هناك على زينب الأم وأعجب بها، وبادلته هي نفس الشعور.

وهكذا تزوجا، وانتقلت إلى الكويت لتشاركه عيشة بسيطة متواضعة، جعلتهما يزوجان ابنتهما الوحيدة لثري في عمر والدها أو يزيد، طمعاً في المال والثروة التي سترثها نادية بعد وفاته، على حد قول أمها.

انتقلت نادية بعد الزواج للعيش في قصر زوجها العجوز. ومنذ الليلة الأولى تبدأ رحلة صمتها: الصمت على كل ما تراه عينها وما تعانيه، فلا يجوز أن تتسرب أسرار القصر إلى الخارج، هذه الجملة الأولى التي يوجهها نايف، الزوج العجوز، إلى عروسه البكر ليلة زفافها. وعلى الرغم من أن جملته هذه كانت لغزاً مبهماً لم تستطع فكه، إلا أنها سرعان ما أدركت هول وبشاعة الأسرار التي يصر زوجها على كتمانها.

هذا العجوز الذي يدرك حدود قدراته الجنسية وانطفاء جذوته، يأتي بعبده المطيع، عطية، آمراً إياه أن يطأ زوجته ويفض بكارتها على مرأى منه، بل وبمساعدته، لتسهل عليه مضاجعتها بعده. بعد هذه الحادثة تصمت نادية مرغمة مصعوقة، فالحقيقة أجل وأعظم من قدرتها على الاستيعاب.

القصر الواسع يتحول إلى سجن سلبها حريتها، ليس لها أن تغادره. وزيادة في التأكد من صمتها، لم يسمح زوجها نايف لوالديها بزيارتها إلا مرة واحدة في الشهر كانت تتم بحضوره.

أما هي ولفرط ما كانت تلاقيه من وحدة وقهر، فقد حاولت أن تستدر عطفه وتتوسل إليه في السماح لها بزيارة أهلها، فلما ضاق ذرعا بتوسلاتها نادى عبده المطيع عطية الذي شرع في جلدها وسحق آدميتها حتى سال دمها فتركها كتلة باردة صامتة.

غلاف رواية صمت الفراشاتولم تكن أحوالها وما تعانيه لتغير شيئا من مشاعره نحوها فهي ما تزال العبدة التي اشتراها بماله لتشبع غرائزه وشهواته، بل ربما كانت منزلة بعض خادمات القصر تفوق منزلتها عنده. هذا ما تأكد لها ذات ليلة عندما دخل مخدعها ليضاجعها وهو الذي ينام بعيداً عنها، فلا يطأ مخدعها إلا إذا اشتهاها، فلما لمس برودها واشمئزازها اشتعل غيظاً وأراد أن يلقنها كيف يكون الجنس.

نادى الخادمة، جورجيت، فأتته شبه عارية ومارست معه الجنس على سريرها وأمام عينيها. وتكشفت لها الحقيقة البشعة بعد أن استدرجت عطية في الكلام الذي كشف لها المستور، بعد أن توسل إليها ألا تخبر سيده بالأمر. كان زوجها يمارس الجنس مع خادمات القصر، وأنه (عطية) يساعده في كل مرة على فضّ بكارة كل واحدة منهن كما حدث معها ليلة زفافها.

قضت نادية أربع سنوات في القصر على هذا الحال إلى أن جاء يوم هربت فيه من القصر مغافلة الجميع إلى بيت أهلها الذين صعقوا لهول ما حكت، وتدخل القدر ليحل أزمة نادية وأهلها، فمات الزوج نايف، وتحققت نبوءة الأم: ورثت نادية من الأموال ما جعلها تعيش سيدة نفسها بعدما تخلصت من عبودية الزوج.

وبكونها صاحبة المال لم يكن لأهلها أن يخالفوا لها رأياً أو رغبةً، فقد أكملت دراستها الجامعية كما حلمت قبل زواجها لتصبح مدرسة للغة العربية، واتخذت مسكناً محاذياً للبحر بعيداً عن القصر وذكرياته المقززة. انتقلت عائلتها للسكن في نفس العمارة قريباً منها، حتى تقطع دابر ألسنة الناس وهي الأرملة الشابة وقد لا تسلم من ألسنتهم.

كان عطية أيضاً، الذي أعتقه سيده وخصه بمبلغ من المال، ممن شملهم عطف نادية وصفحها، فأصبح حارساً للعمارة، بعدما غفرت له فعلته ليلة زفافها ويوم جلدها بالسوط تلبية لأمر سيده، فهي مع ذلك لم تكرهه، بل وجدت له المبررات لتسوّغ ما فعل، واستحسنت فيه صفات لم تجدها في زوجها.

أثناء دراستها الجامعية تقع نادية في حب جواد، أحد أساتذتها، الذي أخفى عنها حقيقة زواجه من أجنبية تعيش وابنهما في أميركا بينما يعيش هو وحده في الكويت. وسرعان ما تتبدد آمالها وتكشف لها الأيام أن جواد يبحث عن متعة حسية ليس غير، ولما فشلت محاولاته للنيل منها جاءها يعرض عليها "زواج المتعة".

خيبة أمل جديدة تجعلها تتقرب أكثر فأكثر من عطية، تهتم به وتعلمه القراءة والكتابة وتتمادى في إكرامه إلى حد يلفت نظر من حولها، فقد أبدى أخوها اعتراضه على هذه المعاملة وكذلك الأم، بينما لم يبدِ الأب أي اعتراض بحجة أن "المال مالها وهي حرّة فيه".

شيئاً فشيئاً تقع نادية عبدة لرغبة حسية محرمة جامحة، فتلجأ إلى أحلامها؛ تتوج عطية فارساً وسيداً لها تستحضره في يقظتها وتطلق العنان لرغباتها الحسية المكبوتة معه.

وسرعان ما تشق أحلامها طريقها إلى أرض الواقع بعد وفاة الأب، إذ تتوطد علاقتها بعطية وتفسح له مساحة في حياتها وتفصح له عن مشاعرها تجاهه، وتسمح لنفسها بالتردد على شقته وافتعال الأسباب لذلك أو إلى استدراجه إلى شقتها بشتى الحجج، مما أثار شكوك أمها وأخيها الذي قام بمحاصرتها وتضييق الخناق حولها، فما كان منها إلا أن قذفت في وجهه بحقيقة حبها لعطية وعزمها على الزواج منه، محطمة بذلك كل القيود الاجتماعية وضاربة عرض الحائط بالتقاليد والأعراف الاجتماعية.

إلا أن الريح أتت على غير هوى نادية، فقد حسم عطية الأمر حينما رفض الزواج منها واختار أن يرحل بعيداً. وبهذا القرار بدا عطية سيداً يملك ناصية أمره بينما تحولت نادية إلى عبدة تنتظر من يعتقها.

تحليل الرواية

يشكل الصمت في رواية "صمت الفراشات" ثيمة مركزية. هذا ما لوّح به العنوان، فقد اختارت الكاتبة صمت الفراشات كتعبير مجازي عن حال المرأة العربية وما تعانيه من سحق واضطهاد لا تملك حياله غير الصمت، صمت أشبه بصمت الفراشات، تلك المخلوقات الرشيقة الرهيفة الناعمة كما وصفتها (ص46)، تتطاير وتحلق دون أن تنبس أو تصدر أدنى صوت.

ولعل الكاتبة قد لمّحت في بعض المواضع في الرواية إلى ميزة أخرى للفراشة تجعلها تستعيرها فتشبه المرأة بها، فالفراشة في إحدى مراحل تطورها تكون شرنقة يقتات الناس حرير جسدها ويفتقونها (ص26) فإذا ما انفضّت عنها خيوطها الحريرية لفظوها واحتقروها دودة حقيرة تستحق سحقها.

للصمت في الرواية حضور واضح يضجُّ فضاؤها به، يتلون ويتشكل بألوان شتى تدركها البطلة نادية وتتعايش معها، ترضاها حيناً وتأنفها أحيانا، وتتحدث عنها حديثاً مباشراً، فتارة هو صمت فرض عليها وتارة هو صمت تفرضه على نفسها (ص12)، وتارة ثالثة هو صمت مريب أشبه بالمطر يهطل من السقف لكنه مثل رماد المواقد (ص16). وقد يكون له لون، شكل صوت عافية ولذة، فإذا عافته كان زائفاً ملّته حتى كادت تسمع زفيره (ص121).

والصمت كما تبينه الكاتبة طبع يفرضه المجتمع على المرأة ويطالبها أن تتحلى به في مراحل عمرها المختلفة:

الأم تضغط بسبابتها على شفتيها وتقول : "اصمتي واسمعي". أبي له طريقته الخاصة في إصدار الأمر بالصمت مجرد أن يلمح إشارة الاعتراض على وجهي يصفق بكفيه، فأفهم أن عليّ ابتلاع الكلام وصوتي.

لم يكن أخي ارحم فحين كنت أراه يختلف مع زوجته، أحاول بسبب حبي لهما أن أرش بعض كلمات لطيفة لتهدئة غضبهما، فيصرخ في وجهي اصمتي ولا تتدخلي، (... ) حتى المعلمة التي يفترض أنها المربية الفاضلة ضاقت بجدالي المتكرر عاقبتني بطرق شتى فتعلمت الصمت في حضرتها كرهت صمتي لكنني واصلته".

كأن الكاتبة بهذه المقدمة تمهد للقارئ وتهيئه لما هو مقبل في الرواية.

ها هي في بداية الرواية تطلعنا على صمت يوصيها الطبيب أن تلزمه مدة أسبوعين إثر عملية يجريها لها في أحبالها الصوتية، وما عليها إلا أن تتقبل الأمر حفاظاً على سلامة صوتها. لنعلم فيما بعد أن فقدان الصوت جاء ليجسد عجز نادية في مواجهة الواقع وتغيير ملامحه، هذا الصمت الذي أودى بحياة عائشة تلميذتها المحببة إليها، والتي اغتصبت من قبل أخيها أحد محارمها.

لم تقدر نادية على مساندتها في محنتها بسبب صمتها المفروض عليها، وحتى بعد علمها بانتحار عائشة وعودة صوتها إليها، فإنها لم تحرك ساكناً ولم تحاول أن تواجه ذلك الأخ الغاشم الذي استباح حرمة أخته، بل وقفت عاجزة حيال هذه الحادثة تعاني تأنيب الضمير. صمتت هي فكان أن صمتت عائشة إلى الأبد.

ثم تعرفنا على لون آخر من ألوان الصمت فرضه عليها زوجها العجوز منذ الليلة الأولى لزواجها، صمت يرغمها على التكتم وعدم إفشاء أسرار القصر وما يحدث بين جدرانه، فتؤثر الصمت مرغمة طيلة سنوات زواجها الأربع إلى أن لاذت بالفرار وفجرت صمتها في وجه أبويها.

ما إن تتولى نادية زمام أمرها بعد وفاة زوجها حتى تنتقل إلى صمت جديد :" لعبة صمت"، إذ تبدأ علاقتها بجواد أستاذها في الجامعة بلعبة من الصمت الزائف (ص120) فيحاول كل منهما إخفاء عواطفه ولا يجرؤ على مصارحة الآخر بها، فيما تصر هي على الصبر بانتظار أن يتحرر من صمته ويصارحها بحبه لها.

وقد جاءت "لعبة الصمت" هذه المرة واختيار نادية جانب الصمت لتأكيد وعيها ورصانتها من الاندفاع وراء شهوتها الحسية والروحية وخوفها من خيبة الأمل إن هي سبقته إلى الاعتراف بحقيقة مشاعرها. وسرعان ما ينفض هذا الصمت فما يكاد يعترف لها بحبه حتى تنساق وراءه معلنة اختلاجات قلبها وتطلق العنان لمشاعرها المكبوتة.

وما تلبث هذه اللهفة وهذا الشوق أن ينطفئا عندما تتأكد حقيقة نوايا جواد وزيف مشاعره مما يلقي بنادية إلى لون جديد من ألوان الصمت، فما عجزت عن تحقيقه في الواقع راحت ترسمه في أحلامها في اليقظة والمنام، فتطلق العنان لخيالها لتحقق رغبة محرمة ليس لها أن تصارح بها أحدا، فتعيش حالات من الحب والشهوة مع عطية العبد تستحضره لأحلام يقظتها (ص218) ترسمه وتصوره فارسا لها.

وهنا يمكننا أن نلاحظ النظرة الطبقية التي تسري في عروق المجتمع العربي الذي لا يسوّغ فكرة الزواج من عبد محرر، بينما يسوغ زواج فتاة في العشرين من عجوز مسن في الستين من عمره، دونما اعتبار لأي نوع من الفوارق التي تتلاشى أمام الحسابات المادية والطمع بالثروة التي تعمي العيون.

تصور الرواية واقع المجتمعات العربية التي لا تزال ذكورية في طابعها، فتبدأ القصة بتصوير واقع الأثرياء العرب وحياة القصر التي تجعل القارئ يظن أنه يقرأ في كتاب ألف ليلة وليلة، حيث الملك والجواري والعبيد. هذا الثري الذي يستطيع بماله أن يمتلك ما شاء حتى البشر، فيحلل ما حرم الله ويحرم ما قد حلل وفق أهوائه دون رقيب أو حسيب.

ولعل الكاتبة توظف رموزاً من قصة ألف ليلة وليلة، وتجري معها حوارا تناصيا ، فإذا كان صمت نادية يهبها الحياة، فإن صمت شهرزاد كان يؤذن بهلاكها. فيما تتشابه الروايتان في خيانة الزوجة للملك مع عبده، إنما في ألف ليلة وليلة كان ذلك في حياة الملك بينما تخون نادية زوجها بعد مماته.

كذلك كان دور الأب نمطياً للأب الشرقي الذي يأمر وينهى ليس لأحد أن يعصيه، فهو صاحب القرار والكلمة في البيت. صورة ألفناها في شخصية أحمد عبدالجواد في ثلاثية نجيب محفوظ التي كتبت في الستينات من القرن الماضي.

سلطة الأب تدفعه إلى تزويج ابنته رغماً عنها من رجل ثري طمعاً في المال والحياة الكريمة، ولم تجد نفعا توسلات ابنته ودموعها ليعدل عن قراره. تستغل الكاتبة هذا الموقف لتقارن بين زيجة الأم وزيجة نادية، فقد أحبت أمها أباها قبل الزواج وكانت على استعداد أن تترك بلدها وتغترب تلبية لنداء قلبها، واليوم يقف الأبوان وقد تجاهلا تماما ما تحب ابنتهم وما تريد ويرغمانها على زواج ترفضه بشدة.

كما تتجلى سلطة الرجل في شخصية الأخ فيصل الذي كان الأقرب لأخته نادية يحبها ويحترمها وتشاركه في الكثير من خصوصياتها، إلا انه سرعان ما يتقمص نفس الصورة النمطية عندما يشعر بوجود علاقة بين أخته والدكتور جواد، ثم بينها وبين عطية الذي ما يزال عبداً في نظره.

صورة أخرى للرجل الشرقي تسلط الكاتبة الأضواء عليها هي شخصية الدكتور جواد، الرجل المتزوج الذي يبيح لنفسه إقامة علاقات عاطفية وجسدية مع أخريات غير زوجته، إلا أنه يرفض ويستبعد بشدة أن تقيم زوجته علاقة مع رجل آخر غيره، بحجة أنها تحبه وليس لها أن تخونه، فكيف يبيح هذا الرجل، الذي بلغ ما بلغ من الثقافة، الخيانة لنفسه فيما يحرمها على زوجته؟ وفي هذا إشارة إلى ظاهرة تشيع في المجتمع العربي عامة، فالرجل زوجا كان أو أبا أخا يحلل الأخريات على نفسه، بينما يود لو يضع كل امرأة تخصه في بوتقة حتى يحميها عيون الآخرين.

من جهة أخرى نلمس من خلال علاقة نادية مع جواد كيف ينظر المجتمع إلى المرأة الأرملة أو المطلقة، يستخف بها ويشتهيها ويظنها سهلة المنال لكونها أرملة (سكند هاند) فلا يطلبها للزواج إلا من كان مثلها.

ثم تجذبنا الرواية إلى ظاهرة بشعة في المجتمعات العربية وهي "زنا المحارم" حيث تصور بشاعة سلطة الأخ الذي يستبيح جسد أخته فيغتصبها ثم يسجنها حتى لا تبوح لأحد بشر فعلته. ويطالبها بالصمت، فتؤثر بدورها الصمت الأبدي وتنتحر.

ظاهرة أخرى تطرحها الكاتبة على عجل وهي انسياق العامة وراء الأحكام الجائرة والمتطرفة التي يطلقها البعض في حق بعض أفراد المجتمع ممن يتعارضون مع معتقداتهم الفكرية أو الدينية حكماً سطحياً لا فصال فيه. هذا ما نلمسه عندما كانت نادية في عيادة الطبيب تنتظر دورها. كانت تقرأ كتاباً لكاتبة معروفة. تقترب منها امرأة منقبة وتلومها لأنها تقرأ لهذه الكاتبة، ثم تبين لنادية أنها لم تقرأ لها وإنما سمعت أنها كاتبة جريئة وحسب لا يجدر بها أن تقرأ لها.

يمكن القول في الختام إن الرواية غنية جدا وجريئة وتمثل جانبا مضيئا ومتطورا من الأدب النسائي الذي يسعى دوما إلى تحسين مكانة المرأة وواقعها.

D 25 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013     A سهام إدريس     C 0 تعليقات