عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

غانية الوناس - الجزائر

هذيان عربي مكرر


غانية الوناس: كاتبة جزائريةيحدث أن أعتزل العالم كلّه، حين أشعر أنّه لم يعد هناك تحديدا شيء ما يستحق التوقّف عنده، حين يصبح كلّ شيء بلون السّواد، وحين يغمرنا الضّباب من أقدامنا وحتّى رؤوسنا، نصبح كأوان قديمة صدئة لم تعد صالحة للاستعمال، ولم يعد حتّى حضورها في البيت مرغوبا فيه، ولو من باب الاحتفاظ بكلّ شيء عتيق، رائحة وعطرا.

لم يتبق شيء من ذلك الزخم الذي يملؤنا لحظة نستذكر شيئا جميلا مرّ بحياتنا، حتّى تلك الذّكريات البسيطة الّتي كانت تلوّن الذّاكرة بحضورها الآسر، مع الوقت بدأت تذبل، بدأ ذلك اللّون الفاقع الجميل يبهت، وبدأت أيّامي معها تتسرّب من بين أصابعي، كأنّما هي عقد أو سبحة آن لحباتها الفريدة أن تغادرها حبّة حبّة.

في مدينة ما يصادف أنّ هناك روحا كانت هي روحي أنا، ويصادف أنّها تشبهني تماما، ويصادف أنّها الآن تجلس إلى دفتر تقرأ ما أكتب أنا هنا.

يوقفني عقلي لحظة. يستوقفني: "يا فتاة، أنت لا بدّ تهذين".

لا أعيره انتباها، وأمضي فيما أنا فيه، يمسكني من يدي الـتي ترتجف وهي تخدش بياض أوراق الدفتر.

"توقفي، أنا آمرك بذلك".

فأضحك، أضحك من فرط لامبالاتي، أضحك من غضبي، أضحك حزنا أو استهزاء، لا أدري؛ يحدث أن أضحك في وجهه، وهو لا زال ممسكا بيدي، أبعده عنّي.

"أرجوك أيّها العقلْ دعني وشأني، فحين أبدأ نحيبي على الأوراق لا أحتاجك هنا".

لا أحتاجك في لحظات قوّتي هذه، أنا هنا حين أكتب، إنّما أداوي نفسي بنفسي، أعالج جروحا أسبّبها لروحي، أو يحدث أن يسبّبها لي الآخرون، لا يهمّ ذلك كثيرا، فأنا أعرف تماما أين علاجي. لذلك لا أحتاجك الآن على الأقلّ، فحين احتجتك في ضعفي خذلتني.

أيّها العقل، دعنا نتذكر جيدا، أنا وأنت لم نتفّق يوما، لذلك هيّئ حقيبة سفرك، واجلس هناك على المقعد الأخير، لا تغادرني تماما، ابق هناك على أهبة الرّحيل، لعلّي أحتاجك فأناديك، لا تتخلّى عنّي تماما، فغضبي يحجب عنّي كلّ شيء، وأعرف أنّي حين أبدا بالصّراخ في وجهك لن تعيرني الكثير من الاهتمام، ولن تسمع منّي كل تلك التفاهات الّتي ألقيها على مسمعك كلّما حاولت تهدئتي.

أنا غاضبة؟ أتظن ذلك؟ لا لست غاضبة، أنا متعبة من كلّ شيء، متعبة منك أنت، متعبة منك ومن ضميري، من قلبي، من مشاعري، من كلّ شيء يسكنني ولا يغادر.

لما لست تلك الفتاة السخيفة اللامبالية، التي تضرب الحياة كلّها عرض الحائطْ ولا تهتّم بأحد، ولا تسأل عنْ أحد؟
لا يعنيها في الكون شيء سوى قصّة شعرها، وموديل ثيابها، ولون المانيكر الّذي يناسب ما ترتديه، وفي آخر اللّيل تنام على صوت موسيقى صاخبة، لتصحو صّباحا أكتر لا مبالاة وأكثر أنانيّة وأكثر قسوة، لما لست كذلك؟

لما أنا تلك الغبية الّتي تجلس كلّ مساء لتسرد على نفسها معاناة كلّ الّذين تعرفهم ومن لا تعرفهم؟ وقبل أن تنام تتأكدّ من أنّهم في تلك اللّحظة نيّام مرتاحون على الأقلّ لساعات قليلةْ؟

لما أنا تلك الّتي تجلس إلى نشرات الأخبار لتبكي القتلى في كلّ مكان؟ تشارك كلّ المفجوعين صلاة الغائب على قتلاهم وشهدائهم، تجوع مع المضربين عن الطّعام، ومع الجائعين الّذين زرعوهم في المخيّمات والملاجئ، وتنام كلّ ليلة باردة الأطراف تشاركهم الصّقيع، فتزورها الحمّى كلّ حلم، لتخبرها كم من الألم يسكنهم، وكم من الوجع يملأ أرواحهم، وروحها مجمّدة كيفما اتفّق!

متبعة جدا يا ضميري، يتعبني أكثر العجز والسّكون، فأواصل بالقلم الحراك على أرض دفتر، لعلّي أحرّر نفسي ذات يوم من كلّ الّذي تعانيه، ولعلّي أحررك معي ذات يوم.

D 26 حزيران (يونيو) 2014     A غانية الوناس     C 0 تعليقات