عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

مهند فوده - مصر

عاشق أفعاه


مهند فودهيقولون إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، ولكنه لدغ ثلاث مرات من ذات الجحر وذات الأفعى.

في قريتنا التي اشتهرت بأن سكانها يعاشرون الأفاعي كما البشر، ولدَ، ونشأ فيها، وإليها عاد بعد انتهاء دراسته.

كان دوما يرى الأفاعي تتجول في طرقات القرية بين سكانها، وتتمايل على جذوع الأشجار، وترقص على إيقاع المزمار في العروض الفنية.

كان اقتصاد قريتنا في ذات الوقت وما زال قائما على الأفاعي التي تقاسمت مع سكانها تلك الأرض منذ الأزل، فصارت فصيلا من سكانها وجزءا لا يتجزأ من هويتها.

انتشرت في القرية كل المهن المقترنة بالأفاعي، والأكثر انتشارا كانت مهنة الرفاعي، حتى صارت قريتنا تُصدرها لكل القُطر المصري بل والبلدان المجاورة.

ومن البديهي لقرية يزيد بها عدد الأفاعي عن عدد سكانها، أن يصير كل مواطن فيها "رفاعي"، يعلم كيف يطوعها ويحذر في ذات الوقت لدغتها، فالأطفال في الطرقات يحملون الأفاعي على أعناقهم وقد اعتادوا اللعب معها، إلا هو، لم تغويه يوما ليقترب من إحداها، وبالتالي لم يخبر يوما كيفية التعامل مع الأفاعي.

ربما كان يخشاها، فقد مات أخ له شاب أغوته أفعى، وعلى حين غرة لدغته، ولم تفلح المحاولات لإنقاذه. مات في الحال في قرية قلما يقُتل بها احد جراء سم الأفاعي، فنشأ بينه وبينها منذ صغره حاجز نفسي لم يستطع أن يحطمه حتى رآها.

اختارت هي اللقاء الأول، وبدلا من أن يقتلها إثر لدغتها الأولى، تركها تعود لجحرها. رق قلبه ربما أو منعه ضعفه من قتلها، شرب من إحدى زجاجتي ترياق كانت والدته الراحلة تحتفظ بهما كسائر منازل القرية.

ولكنه لم يعد هو الذي كان قبل لدغتها، شيئا ما تبدّل بداخله وكأنها نفثت في دمائه سحر عشقها بدلا من سُمها. صار يهوى الأفاعي، وفي طرقات القرية أصبح يدنو منها، اشتهى من داخله تطويعها كما يفعل الصغار أمامه، وتمنى لو تخرج من جحرها تلك التي تسكن جدار غرفته.

كان يسمع أنينها الخافت تارة من بين القوالب الحجرية للجدار الذي تسكنه، فيرق لحالها، وتارة ينبعث منه فحيح مخيف فيرتعد من الخوف.

كل ليلة، كان يسُد شقوق جداره ذاك بأجزاء من قماش بالٍ، ويحرر الشقوق منها نهارا، لعل معشوقته تخرج من أحداها، ولكنها لم تفعل، حتى يأس خروجها، وتيقن رحيلها.

وفي ليلة ما، تكاسل عن سد الشقوق كعادته. فاستيقظ قبل الفجر على لدغة ثانية أصابت قدمه اليسرى. صرخ من الألم، وتحامل على نفسه، واتكأ على قدمه الأخرى حتى يضيء المصباح ولم يجد أثرا لأي أفعى. تناول على الفور شراب زجاجة الترياق الأخيرة المتبقية لديه.

طوال ذاك اليوم، شغلت هوية لادغته الثانية جُل تفكيره. شك أنها ذات الأفعى، قد لدغته وعادت سريعا لجحرها.

كانت شكوكه نحوها مجرد شك، وليس الشك كاليقين، ففسر شكه ذاك لصالحها، معللا لنفسه أن أفعاه مدينة له بحياتها حينما تركها اثر لدغتها له، ولن تفعل به ذاك ثانية.

أقنع نفسه أن أفعى أخرى تسللت من عقب الباب الضيق ومنه خرجت ثانية.

لم تكد جراحه أن تلتئم بعد، حتى رآها بأم عينيه تخرج من شق جديد صنعته بمرور الأيام ولم يلحظه من قبل. خرجت تطل من رأسها بقلق مترددة، مبدية خوفها منه، فطمأنها ضاحكا أن لا خطر منه، ودعاها للاقتراب والجلوس في حضرته.

اطمأنت له، وببطء اقتربت. تحادثا لساعات طويلة، وقد اعتادت وراقت لها جلسته.

أمّنته على نفسها، فأمّنها، وعلى الوفاء أقسمت له، فصدّقها.

قررت ألا تعود ثانية للجحر، فقد وجدت في غرفته ملاذا آمنا، فبدلا من شقوق الحجر وجدت معيشة رغدة: طعاما وفيرا، ومسكنا في ذاك الشتاء دافئا.

وما أن أسدل الظلام عليهما في الليلة الأولى التي قضتها خارج جحرها، وتأكد له نومها، غط في نوم عميق ولم يستيقظ سوى على لدغة ثالثة أصابت ذراعه. صرخ من فرط قوتها التي فاقت المرتين السابقتين، ورغم براحة ألمها استطاع مد يده لزر المصباح الذي وضعه بجوار مخدعه حديثا، فأضيء المصباح عليها ممدة بجواره، ووجد عيناها تترقرق فيها الدموع.

من بين أنياب الألم التي تفتك بذراعه، استطاع أن يُفلت من آهاته المتتالية كلمة واحدة يسألها: "لماذا؟"

ردت عليه نادمة: "ليس بيدي. أنا أفعى. وتلك هي فطرتي".

فقد وعيه على اثر لدغتها، فقد ذهب السم بعقله، وقد نفذت كل زجاجات الترياق لديه.

في الصباح وجدوه مسجى على ارض غرفته ميتا، وقد فرّت أفعاه.

حفر مشيعوه على شاهد قبره جملتين، الأولى. "عبرة لمن يعتبر". وبخط أكبر كتبوا بأسفلها جملة: "عشق أفعى فاستحق لدغتها".

قصته شاعت بين أبناء القرية، الكل صار يحفظ قصته ويلقنها لأبنائه، حتى انتشرت خارج حدود قرية الأفاعي، وصار قبره مزارا ومعلما شهيرا يحج إليه كل من زار القرية.

"أله مع الأفعى كما شئت؛ لكن لا تعشقها". هكذا ختمت جدة من ذات القرية قصتها التي روتها لحفيدها الشاب عن عاشق أفعاه. هو يحفظها جيدا عن ظهر قلب كما كل أبناء القرية كبارا وصغار، ورغم ذلك، بين الحينة والأخرى تستيقظ القرية على عاشق جديد انضم لقائمة ضحايا الأفاعي.

D 27 تشرين الأول (أكتوبر) 2014     A مهند فوده     C 5 تعليقات

4 مشاركة منتدى

  • معدن خام.. لو تمَّ الاجتهاد قليلا في صياغتة كأن تستفز هواجس المتلقي وفضوله..؟ لانصهر المعدن وتحوَّل إلى فضة أو ذهب، وتحوَّلت القصة إلى حكاية ممتعة للأطفال- على أن الحكاية راقتني في مطلق الأحوال. مع خالص محبتي


  • أ/ مهند ...أتابع كتاباتك وانتظر جديدك دائمًا مع كل إصدار جديد لمجلة عود الند ..والقصة إضافة جديدة لكتاباتك و"غرام الأفاعى " اسم يراودنى طيلة قراءتى للقصة ،"الأفعى " حملت اكثر من رمز ولكن مع السطورالأخيرة لم يعد لها غير تفسير واحد ...لذا أعتقد أعادة النظر فى صياغة النهاية يفيد القصة أكثر من وضعها الراهن المحدد بمعنى واحد ..وتبقى وجهة نظر والقرار لك ..ومن إبداع إلى إبداع ..تحياتى وتقديرى


  • لولا ان الكُتّاب كتبوا وافاضوا بتشبيه المراة بالافعى لاستطعنا ان نقرأ هذه القصة بأذهان حيادية .واذا طبقنا هذا التشبيه فما هو الترياق ؟
    عمموما هي قصة حلوة تَحثنا لنعرف النهاية لشاب عزم مسبقاً ان يموت بلدغة وفضّل ان يُجَهِّز المصباح ليرى عروسه بدل ان يطمئن على وجود زجاجة الترياق قرب سريره .


  • أفكار القصة كما نهايتها مكشوفة ومباشرة، لم تترك للقارئ ما يقرأ بين السطور.. لكنها لا تخلو من المتعة والتشويق.. كل التحية والتقدير.


في العدد نفسه

كلمة العدد 101: الكتابة المحايدة جندريا

نص الصـورة: فرانكشتاين في بغداد لأحمد سعداوي

بناء المقاطع الصوتية ودلالتها في شعر البحتري

الإبداع في مجتمع المعرفة

مظاهر التّفكير الخرافي في المجتمع الجزائري