عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

مهند فوده - مصر

أقفال تفتح القلوب


مهند فودهوقد عقدت النية حال زيارتي باريس أن أزور جسر العشاق، وان اشتري قفلا وأعلقه بسور الجسر، لربما تصيبه العدوى من أقفال تجاوره، وينقل عدوى الحب إلى قلبي بالتبعية، فأزوره مرة ثانية لأضيف اسما في المكان الخالي بجوار القلب المرسوم جار اسمي.

وأتيحت لي في تموز الماضي لأول مرة زيارة باريس، وصعدت على جسر العشاق بقلب خالٍ، حاملا في يدي اليمنى قفلا، وفي يدي اليسرى أملا كبيرا. لكن سرعان ما خاب أملي حينما هالني الكم الهائل من الأقفال المتنوعة في الأحجام والأشكال والألوان والمعلقة بأسواره، والمُدون عليها أسماء عشاقها بكل اللغات.

من كل حدب وصوب جاءوا مُعلقين حبهم على سور جسرٍ في باريس، مطمئنين أن عُمر حبهم سيطول طالما ظلت أقفال قلوبهم معلقة به، وبقيت مفاتيحها راقدة في قاع نهره الخالد.

تجولت بعيني في الأقفال أتأملها، باحثا عن متسع لقفلي بينها، وحين يئست في إيجاد مكانا له، قررت النزول لأسفل الجسر والجلوس على مقعد بمواجه شط نهر السين، لأتأمل حال قلبي البائس على صفحات نهر الحب.

على الطرف الآخر للمقعد ذاته، كانت تجلس فتاة ملامحها شرق أوسطية، بيأس كانت تعبث يداها بقفل كبير، فبادرت بسؤالها بالإنجليزية:

"الم تجدي لقفلك مكانا، مثلي؟"

ردت بالعربية: "نعم".

ضحِكت وقلت لها: "يبدو أن الجسر ضاق على قفلينا".

قالت بلكنة فلسطينية: "بعد قليل سأصعد ثانية، حتما سأجد مكانا".

قلت لها: "أأنتِ فلسطينية؟"

قالت: "نعم"، ومدت يدها بقفلها الكبير، تُريني هويتها. خريطة وطنها مرسومة بوضوح على أحد وجهي القفل، وكلمتي "غزة تقاوم" بالعربية والإنجليزية على الوجه الأخر.

قلت لها وأنا أرد لها برفق هويتها: "ظننت قفلك يحمل اسمك واسم حبيب لكِ مثلا".

بابتسامة صغيرة ردت: "لا نملك نحن الفلسطينيون رفاهية الحب مثل العالم".

خجلت مما قالته، ولم أُريها قفلي وبهدوء دسسته في جيبي.

وأضافت بعد صمت قصير: "حب الوطن أكبر كثيرا من مُجرد قفل، وأطول عمرا من حب البشر، ولكني أردته على الجسر مجرد رمز ليس إلا، لربما تقع أعين بعض زائريه ومتفحصي أقفاله على قفلي، فيتذكروا أن هناك مكانا ما في العالم يُعاني، لا يتمتع مواطنوه برفاهية الحب مثلهم، ولا الوقت الكافي ليفرحوا، فلا العروس يظل فستانها أبيض، ولا الوليد الجديد ينعم بوالدين كليهما حي، فالحب في وطننا دوما ما يحيا مبتورا، قصير العمر، وربما يموت في رحم أمه حتى قبل أن تلده فيموتا معا، لتزرع كل يوم عشرات شواهد القبور لشباب صغار وأطفال لم تهنأ الأرض بعد بحصادهم، ليدفنوا مبكرا مع أحلامهم، دون أن يخبروا مذاق ذاك الحب الذين يصنعون منه، في أعلى الجسر، أقفالا".

كمن تحدث نفسها، استطردت تقول: "أعلم أن ما أفعله الآن، لا يُقدّر بما يفعله أبناء وطني وتضحياتهم كل يوم، أنا هنا ادرس الفنون في مدينة نيس، ورغم أن العلم يُعد مجاهدة في سبيل الوطن أيضا، ولكنه لا يقارن بذاك الجهاد الذي تُقدم فيه دماءك وأولادك وأحباءك قربانا لوطنك المحتل، أتعلم؟ لقد فكرت كثيرا أن أعود لأحارب جنبا إلى جنب مع إخوتي الرجال، أن ادعمهم بيدي لا بفرشاتي، أن أُرضي شيئا ما بداخلي دوما ما يصرخ فيَّ ويتهمني بالتقصير، ولكن أبناء جاليتي في فرنسا دائما ما يحثوني على البقاء، يعلِّـقون آمالهم عليَّ، بأنني يوما ما سأجاهد بقضيتهم على جبهة أخرى، ربما في صالات الفنون، أجوب أنحاء العالم أجاهد بلوحاتي، اعرض قضيتنا، أخلد شهداءنا، وأعيد هوية مدننا التي سلبت منا ومن ذاكرة العالم".

تضاءلت قامتي كثيرا وهي تحدثني بحماسة عن قضيتها، أشعرتني بأنها الأكبر سنا رغم إنني أزيدها بعشر سنوات على الأقل. أي صنفٌ من صنوف البشر هي؟ وأي وطن هذا الذي يُلاحقك بقضاياه في غربتك ليل نهار؟ لربما يعود الاختلاف بيننا، لأنها تنتمي لوطنٍ محتل، ولأننا ولِدنا متحررين من الاستعمار فلم نخبّر مرارته في حلوقنا مثلها ومثل آبائنا وأجدادنا، فلم نملُك يوما العزيمة مثلهم، وظللنا نبحث طوال عُمرنا عن قضية ندافع عنها، فانشغلنا عن شقيقتنا المحتلة بقضايا أخرى لم يكن لها قدر يذكر من الأهمية. وها أنا اليوم أجلس على ذات المقعد مع فتاة في مقتبل العمر لا هم لها سوى وطنها، وأنا لا هم لي سوى البحث عن حب فتاة تشاركني حياتي الفارغة.

بعد قليل، صعدّت معها على الجسر، وقد توزع كل منا في جهة ليبحث لقفل غزة عن مكان، تفحصت الأقفال بشكل أكثر دقة هذه المرة، وجدت أقفالا كثيرة لعشاق عرب، وأقفالا عديدة لمواطني ذات الدولة المحتلة. ذهبت لها عارضا فكرة أن نُحطم قفلا منها، ونعلق قفل غزة مكانه، ولكنها أبت قائلة إنها ما جاءت هنا لتحطم أقفالا لآخرين في سبيل قضيتها.

بعد قليل، أشارت لي بالقدوم، فقد وجدت ضالتها خلف دائرة كبيرة من زحام الزائرين، فكان الزوار يحرصون على التقاط الصور مع قفل كبير عليه علم بريطانيا، وحينما حاولت التقاط حروف أسماء عاشقيه، كان لكيت ميدلتون وزوجها الأمير ويليام، زرعاه على الجسر وقت زيارتهم لباريس منذ عامين، وقد شُغل كل سنتيمتر بأقفال اصغر حول قفلهما، يأمل عشاقها بأن تنعم أقفالهم بمجاورة قفل الأميرين العاشقين تبركا بحبهما.

بعينين لامعتين نظرت لها باسما دون أن نتبادل الحديث، فقد فهمت ما قصدته على الفور بل وأيدت بابتسامتي ما تنوي فعله. انتظرنا مغيب الشمس وقد خفت أقدام زوار الجسر، وبسرعة أخرجت من حقيبتها قفل غزة الكبير وعلقناه بقفل وريث عرش بريطانيا وحبيبته، ما كان وطنها ليعاني لو لم يكن ضحية وعد بلدهما لليهود [وعد بلفور]. ومشينا مبتعدين عن الجسر.

قبل أن نفترق، قلت لها متخوفا: "لربما يقومون بنزعه"، فقالت بثقة: "لا تقلق، كلما سنحت لي فرصة لزيارة باريس سأزرع بقفل الأمير قفلا غيره"، وفتحت لي حقيبتها لتريني كم الأقفال التي تحملها، ثم عقبت باسمة:

"إذا مررّت بأي جسر في طريقك ستجد قفلا لغزة معلقا به، ليست بريطانيا وحدها التي تتحمل جريرة ما يحدث في فلسطين، إنه الغرب والعالم كله مذنبٌ بحقها، وذنب شهدائها وسكانها معلق بهم إلى يوم يبعثون".

ثم صافحتني قائلة: "نسيت أن أعرفك باسمي، أنـا نضال، سررت بلقائك".

مبتسما صافحتها: "وأنا زياد، أقيم بلندن، سررت بلقائك أكثر".

وكمن تذكرت شيئا، عبثت بمحتويات حقيبتها ثم أخرجت مفتاحا ومنحته لي قائلة: "هذا مفتاح قفل غزة بجسر الفنون آو العشاق كما يدعون، أُخالف عادات العشاق تلك، ولا ارمي بمفاتيح أقفالي في الأنهار، أرجو أن تقبله كتذكار و تحافظ عليه".

بامتنان تسلمّت مفتاحها، وقد أسعدني كثيرا. ربما أكثر مما تعتقد هي، وحتى لا يضيع، علقت المفتاح بقفلي الخالي، آملا أن تنتقل عدوى حب نضال لوطنها إلى قفلي التعيس، فأجد حُبا حقيقيا يُعمر قلبي مثل حبها لوطنها العزيز.

D 25 أيلول (سبتمبر) 2014     A مهند فوده     C 13 تعليقات

7 مشاركة منتدى

  • مهند فودة من مصر
    الظاهر ان قدرنا ان نقدم رومانسية قلوبنا قربانا لاوطاننا، فما العمل وقد ارضعتنا امهاتنا حب الوطن واغنية ( وطني حبيبي وطني الاكبر ) رغم قدمها وما كنا وعينا عليها حينها إلا انهاانتشرت نيران ثورتها في القلوب كما النار في الهشيم واحييت املا وحبا لا تخبو نيرانه.
    ولكوني عراقية ولن استطيع الوصول الى باريس إلا بدفع مبالغ طائلة عولت على نفسي ان اشتري قفلا صغيرا اكتب عليه العراق واعلقه بسلسلة بعنقي تتدلى على صدري كي اهتف باسم العراق كلما آذتني ضرباته على صدري، فان بلادي لن يسكت غليان دم ابنائها المسفوح إلا ابناءها ولن يحرر بلدي إلا أهله
    دوما مبدع ياسيدي.
    بالتوفيق


    • كلماتك عن وطنناالعراق (وليس وطنك وحدك) يصلح نصا ابداعيا في حد ذاته .. اتمنى ان يأتي يوما يعود العراق لسابق عهده كما كان قبل ان يدخلوه التتار ويخربوه ويلقوا بكتبه وعلومه في نهر دجله .. سواء قُدر للعراق ان يمر به هؤلاء التتار او من بعدهم تتار العصر الحديث .. سيعود العراق قريبا لمجده.. طالما حظي بابناء يحبونه ومخلصين له مثلك يااستاذة هدى .. سلمت وسلم عراقك من كل شر ..

  • "أقفال تفتح القلوب" عنوان عميق لقصة ترتوي من شرايين قضية مازال مفتاح قفلها مابين الضياع والتغييب، هي قصة تفتح القلبوب على حب أكبر وأطول، وتلقن النبض كيف عليه أن يكون إيقاعه،هنا رسالة لكل عربي وضع قفلا على صماميه فكان المفتاح المهدى محاولة إعادة فتح ليستعيد الحب قضاياه ويكون الوطن ممتدا فينا عروبة .
    القدير مهند فوده نص جدير بالقراءة .سعدت بالقراءة لك .كل التقدير والود.


  • ظاهرة "جسر أقفال الحب" موجودة في كل من الصين وروسيا وإيطاليا وألمانيا وحتى الجزائر. ويبدو أن العدوى تنتقل من بلد لآخر. فمع انهيار سياج جسر الفنون في باريس الشتاء الماضي، بات جسر مدينةهامبورغ الألمانية مقصدا للعشاق لتعليق الأقفال ورمي المفتاح في النهر، رغم أنه جسر خجول قياسا بجسر أقفال باريس. ومع صعوبة الحصول على الفيزا والوصول إلى جسر باريس, ابتكر العشاق في الجزائر العاصمة " جسر الحب بتيلملي" وأصبح قبلة للشباب المتيمين.

    هي ظاهرة طريفة، فالقلب العاشق الذي يعلق صاحبه أمنية عل جسر أفضل من قلب مؤمن أصابه اليأس والإحباط فرمى نفسه من نفس الجسر انتحارا، وإن كان التعبير ساذجا بمجرد "كادنة" تصدأ مع الأيام وقد تقع يوما من كثرة الصدأ. والقول الشائع عندنا مختصر ومفيد: " الحب في القلب"؛ وهو الحب الأدوم والأبقى سواءا حب بين البشر أو حب للأوطان.

    شكرا على ما أمتعتنا به أ/ مهند فودة، بورك يمينك.


  • الكاتب الواعد مهند فودة ..أحييك على القصة كل ما فيها تم أختياره بعناية فائقة بداية من العنوان مرورًا بجسر الحب وحتى أسم البطلة والبطل ومكان وضع القفل ..رائع الخلط بين حب الوطن والحب ذاته، السلاح الناعم الذى تملكه نضال الفنانة قد يكون أكثر تأثيرًا فى ألقاء الضوءعلى معاناة وطنها وفتح القلوب المغلقة والأعين على الحقيقة التى يتكبدها أبرياء ..القصة تمثل نقلة تحسب لك فى نوعية موضوعاتك ..فى إنتظار جديدك دائمًا ..مع أطيب أمنياتى وأرق تحياتى


  • "يا واهبَ الخلدِ للزمانِ = يا ساقيَ الحبِّ والأغاني/ يا ليتني موجةٌ فأحكي إلى لياليكَ ما شجاني". مغالطة كبيرة أن يكون نهر "السّين" نهرا خالداً. النيل هو النهر الخالد يا صديقي.


  • معظم المدن الساحلية هي مدن "الثورة والحب " كما كانت الثورات تبدأ منها وكذلك حكابات الحب ورواياته ..هاهي مدينة البصرة تبتكر للعراق مالم يكن موجودآ فيه ،إذ يحول شبابها جسرآ مهملآ وقديمآ إلى "جسر حب "على غرار ما هو موجود في بعض دول العالم المتحضرة والتي تحترم الإنسان ،من أجل إشاعة ثقافة الحب والتسامح وتبذ العنف والأحقاد .
    الجسر الذي وقع عليه الإختيار لم يكن يحمل إسمآ منذ تشييده منذ عشرات السنبن ويقع على "نهر الخورة " المتفرع من "شط العرب " الشهير هاهو اليوم يبدو بحلته الجديدة بعد أن قام شباب بصريون يحبون الحياة ويراهنون عليها بطلاء بدنه الصديء على نفقتهم الخاصة وتثبيت مشبكات حديدية يمكن أن تعلق عليها الأقفال بسهولة ،لم تكن مفاجأة للشباب حين هب عشرات البصريين
    لمساندتهم بعشرات الأقفال وكل ذلك من أجل أن يكون في البصرة والمبصرة "جسرآ للحب " بعد أن قطع الإرهاب جسور القلوب بين الوطن الواحد .


  • أ/مهند فودة تحية طيبة تتميز بعض قصصك بوضوح الفكرة ,ولا تحفل كثيرا ببريق الألفاظ ,وهوأمر يحسب لك لا عليك .هذه القصة جميلة أتمنى لك التوفيق دوما ومزيدا من النضج والتقدم والتألق .
    نعتز بك


في العدد نفسه

كلمة العدد 100: عود الند تضيء 100 شمعة

"إمبراطورية النظرة المحدقة"

جدارية جرنيكا لبيكاسو

ثقافة الصورة: من الاستعراض الاجتماعي إلى البكاء الجماعي

ثقافة الصورة: ما لها وما عليها