د. أشرف صالح محمد سيد - مصر
الصيادون في الموروث الثقافي الشعبي المصري
"وهكذا مرت الأيام فالشهور، وحالت الشهور إلى سنوات، والطفل ينمو وتظهر قوته، وكان كثيرًا ما يتسلى بصيد السمك من النهر بحربة صنعها له أبوه": عبارة جاءت في كتاب (أساطير فرعونية من تاريخنا القديم)، فمصر تطل على ثلاث كتل مائية غنية بكنوزها: البحر الأحمر، والبحر الأبيض المتوسط، ونهر النيل، مما يجعلها واحدة من أفضل أماكن صيد الأسماك في المياه العذبة والمالحة تنوعًا من أي مكان آخر في العالم.
الصيد وقدماء المصريين
كان لدى قدماء المصريين آلهة للسمك، وكانوا يعتمدون في غذائهم على أسماك الفرخ، وعلى أسماك السلور (النوع الذي تصدر عنه نبضات كهربائية)، وأسماك الشبوط، وأسماك الثعابين، وأسماك البلطي، وأسماك أم خرطوم، وعلى السمكة النمر، وعلى سمكة القيصان إضافة إلى عدد كبير من الأسماك.
كان لصيد الأسماك عند قدماء المصريين طرق عدة: وهي الصيد بالشص، والصيد بالشبكة، والصيد بالسلال، والصيد بالخطاف، والصيد بالنشالة، وكان صيد الأسماك محببًا عند القوم لدرجة كبيرة كرياضة وتسلية. كما أنهم قدسوا بعض الأنواع كالأنوم والبياض والبني لورودها ضمن أقاصيصهم الدينية المتوارثة، وكانوا يتجنبون صيدها في أيام انخفاض الماء في النيل محافظة عليها، وقد تقدموا في حفظ الأسماك وتمليحها كما يظهر ذلك على الأخص في مقابر الأسرة الخامسة في سقارة. يقول هيرودوت: "ويعيش بعض هؤلاء القوم على الأسماك فحسب، وهم حين يصيدونها، يستخرجون أحشاءها، ويجففونها في الشمس، ثم يأكلونها جافة".
مهنة الصيد
تُعَدّ مهنة الصيد من أهم المهن التي تساعد في سد عجز كبير من الغذاء، كما تُعَدّ من أرخص أنواع الغذاء الغني بجميع الاحتياجات الغذائية التي يحتاجها الإنسان. يُعرف الصياد لغويًا: أنه مَنْ أحترف الصيد، ويقوم الصيادون بتنظيم عمليات الصيد بين بعضهم البعض، وتتلخص مهام عملهم في ركوب البحر، ورمي الشباك في مياه البحيرة (البحر) لمدة معينة حتى يتجمع عليها السمك، ليقوموا ببيعه بعد ذلك إلى التجار.
ومن أشهر وأبسط طرق الصيد في مصر. فرد الشبكة بشكل معين (توجد أشكال مختلفة حسب نوع السمك وحسب عُمق المياه)، ثم الضرب على المياه بالـ[مدره] (وهي عصاة الصياد الطويلة) حتى يتحرك السمك في اتجاه الشبكة. وللصيد مواسم معينة ولكل منها نوع معين من السمك يختلف باختلاف الموسم.
ملابس الصيادين
اشتهر الصيادون بملابسهم المميزة، فارتدى الصياد سروالاً طويلاً فضفاضًا، يحده من أعلى عند الوسط "كمر" يقفل بأزار أو تكة، وتحت الكمر ينسدل "السروال" باتساع عن طريق طيات أو كشكشة، وينتهي عند الكاحلين بأساور تقفل بأزرار. أما من أسفل المنتصف فله حجر واسع يتيح للصياد الحركة السهلة عند العمل، وتحدد ألوانه بين الأسود أو الأبيض، ويصنع من الأقمشة الشعبية الرخيصة الثمن.
ويعلوه من أعلى "الصديري"؛ وهو ثوب قصير لا يتعدى الخصر، بدون أكمام وله فتحة عنق مربعة ومشقوق من الأمام، ويقفل بأزرار وقيطان وله ثلاثة جيوب خارجية، ويحاك وجه الصديري من قماش الشاهي اللامع المخطط، أما الظهر والجيوب فمن قماش الدمور، وتتنوع أشكاله ويختلف من منطقة إلى أخرى، ويلبس من تحته فانلة من القطن بأكمام طويلة ورقبة عالية.
ويرتدي الصياد أيضًا ما يسمى بالفرملة "صدرية"، وهو مثل الصديري يتشابه معه في أنه بدون أكمام وقصير، إلا أنه فتحة الرقبة مزينة أو مطرزة بإيطان. أما الشاملة التي يرتديها الصياد فهي عبارة عن قطعة قماش طولها من مترين إلى ثلاثة أمتار، وعرضها عشرون سنتمترا تُصنع من القطن، على أن تثنى طبقتين ويثبتها الصياد أعلى السروال.
أما أغطية الرأس أو مكملات الزي، ومنها "الطاقية" وهي عبارة عن غطاء للرأس للرجال على شكل مخروط، تصنع من خيوط قطنية أو صوفية بطريقة شغل الإبرة (الكروشية). وحولها أحيانًا تُلف "العمامة" القطنية والتي يفضلها الصيادون كبار السن، والتي تختلف عن "اللاسه" المصنوعة من القماش الحرير.
وتشتهر بعض المناطق بالقبعة التي تصنع من قماش القطن وألوانها بين الأبيض والأسود والرمادي. أما ألبسة القدم فهي عبارة عن حذاء يُصنع للصيادين من الجلد وبدون أربطة ونعله سميك ويوجد منه برقبة عالية.
الموروث والمعاصرة
الصيد تلك المهنة الشعبية والتي جمعت بين ثناياها -بتقاليدها وعادتها وتصوراتها- عناصر فلكلورية لا حصر لها، وهي تلك التي ورثها الشعب ويحرص حتى الآن على رؤيتها والبحث عنها، حيث الحياة البعيدة عن صوت الآلة وسحر المال، والتي كانت جزء من الحياة الشعبية، حيث لا يتحكم القانون الوضعي وإنما تسيطر التقاليد والعادات وبوصفها أسمى قانون وأجمله. حين كان ولا زال عصر الصناعة الصاخب وعالم الآلة بعيدًا، والذي تطغى فيه صوت الآلة والسعي الحثيث وراء المال على كل الأفكار الإنسانية الأخرى، وقبل أن تتدخل الثقافة الوافدة والمستحدثة المعاصرة في الثقافة الشعبية.
أما الآن فلا يحق لنا أن ندعي أن هناك مكانًا بمعزل تمامًا عن التغيرات السريعة التي تعتري حياتنا في شتى جوانبها. ولا مفر لنا إذن من أن تتطور دورة حياة تلك المهن في ضوء العصر الذي نعيشه وتأثيره الذي يفرض التغيرات على كل شيء. كل هذا يؤكد على ضرورة تحريك هذه الثقافة التقليدية للصيادين بأزيائهم وأدواتهم وأسلوب عملهم ومهنتهم نحو روافد العلم المتجددة حتى لا تتعارض معها وتحدث نتائج سلبية والتي تهدد وجود مستقبلها وتدمرها، وتلافي الأسباب التي جعلت الجزء الأكبر من واقع المهن المتوارثة في حالة من انعدام التوازن الآن.
وأخيرًا؛ كانت أسر بالكامل لأزمان عديدة تمتهن تلك المهنة التقليدية المتوارثة كمورد رزق يومي من أجل البقاء، مستخدمةً خامات البيئة منخفضة التكاليف، حرص خلالها الأجداد على نقل الخبرة للأبناء، فقد رسمت أيدي الصيادين وهي تطرح شباك الصيد ملامح من تراث الدولة، وقدمت جانبًا من تاريخ الوطن.
= = = = =
المراجع
سونيا ولي الدين، عايدة خطاب عمار الوراقي، عبد المحسن الطوفي، موسوعة الحرف التقليدية في مدينة القاهرة التاريخية. القاهرة: جمعية أصالة لرعاية الفنون التراثية والمعاصرة، 2004.
عبد المجيد حواس، محمد كمال، موسوعة الحرف التقليدية في مصر. القاهرة، 2005.
عمرو محمد حسونة وآخرون، "أزياء بعض المهن التراثية". المجلة العلمية للبحوث الصينية المصرية (جامعة حلوان). المجلد الثاني، العدد الأول، يناير 2013.
كمال الدين الحناوى (المترجم)، أساطير فرعونية من تاريخنا القديم: قصص عربية. القاهرة: الدار القومية للطباعة والنشر، [د. ت.].
محمد أحمد غنيم، الحرف والصناعات الشعبية: دراسة إثنوجرافية. الجيزة: عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، 2009.
هيرودوت، هيرودوت في مصر. نقله عن اليونانية: وهيب كامل. القاهرة: دار المعارف، 1946.
◄ أشرف صالح
▼ موضوعاتي