عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » أرشيف أعداد عـود الـنـد » الأعداد الشهرية: 01-120 » السنة 9: 96-107 » العدد 103: 2015/01 » جمالية السرد في "هكذا حكم ..." لياسين باهي

حسين أو عسري - المغرب

جمالية السرد في "هكذا حكم ..." لياسين باهي


ياسين باهي باحث شاب وأكاديمي واعد، اختار أن تكون باكورة إصداراته عملا أدبيا، عبارة عن نصوص قصصية جمعها في مجموعة وسمها بـ"هكذا حكم..."[1]. تقع المجموعة القصصية، الصادرة في الآونة الأخيرة عن دار الوطن للصحافة والطباعة والنشر، في واحد وخمسين صفحة، وتشتمل على واحد وعشرين عنوانا؛ تجسد كلها لحظات ووقائعَ مقتنصة من صميم الواقع، صيغت بحس فلسفي يميل في كثير من الأحيان إلى الترميز والتلغيز أكثر منه إلى البوح والتصريح.

ولملامسة بعض القضايا الفكرية والجمالية، التي شغلها القاص في مجموعته، ارتأينا مقاربتها من خلال ثلاثة مستويات، تخص المحتوى والشكل:

الكتابة بوعي فلسفي

تبدو العلاقة بين الإبداع بشكل عام والأدب بشكل خاص متداخلة ومترابطة، ولعل هذا ما تعكسه مجموعة "هكذا حكم..." القصصية، إذ عالج فيها المؤلف تيمات وأحداثا نهلها من لحظات عابرة، تشكل جزءا من المعيش اليومي، تتخذ من اللحية والحب وإدارة جلسة الشاي والدعارة وغيرها مواضع دسمة، لتعالجها برؤية فلسفية، تتضمن نقدا خفيا وتارة صريحا للتقاليد والأعراف والثقافة المحافظة التي ما زالت تنخر جسم مجتمع منهوك، يعيش على عتبة الفقر والعطالة، ويعيش في نظام مستبد، يسخر فيه الدين لقضاء مآرب وأغراض شخصية تتنافى وعقيدة الدين نفسه أو تعكس فهما مغلوطا له.

يتكئ القاص كذلك، وهو ينسج خيوط قصصه، على خلفيات فلسفية، تدعو إلى تحرر الإنسان من الوهم، وتتخذ التحليل العلمي منطلقا لتفسير العالم ولفهم تناقضاته. فـ"نوال" ليست عاهرة بمحض إرادتها، وإنما هي مجبرة على مزاولة الدعارة لكسب مال يمكنها من اقتناء دواء لوالدتها "حليمة" التي تصارع المرض العضال. ويتجلى الحضور الفلسفي اللافت، إضافة إلى ذلك، من خلال توظيف عدة مفاهيم تحيل على هذا الحقل: الانتقال الطبقي، المحاكاة، السقراطية، وأيضا من خلال بنية التقابل الحاضر بقوة في مختلف نصوص القصة.

بنية التقابل

يمكن القول إن التقابل يشكل السمة البارزة المهيمنة في هذه المجموعة القصصية، ولا غرو في ذلك ما دامت الفلسفة الماركسية التي يصادف قارئ القصة بعض تجلياتها، تتخذ من الدياليكتيك آلية علمية لفهم الصراع، الذي لا يمكن تفسيره إلا من خلال استحضار الشيء ونقيضه. فلا حضور للخير والشر والغنى في القصة إلا من خلال استحضار الضد. يقول السارد: "تتعدد ألقاب هذا الصراع بين الفريقين بتعدد الأشخاص، فمنهم من يطلق عليه الشر والخير، ومنهم من يسميه صراعا بين النور والظلام، وفئة أخرى تسميه صراعا بين الفقر والغنى"[2].

إن هذا الصراع بين عالمي النور والظلام يعكسه أيضا غلاف القصة الذي صممته هند الساعدي؛ شخصه بشكل أيقوني إلى حد كبير، فمساحة الغلاف تحتوي على لونين: أبيض وأسود، وهما اللونان اللذان يقسمان وجه شخصية تبدو محطمة وحزينة، ومنشطرة بدورها إلى عالمين: عالم الصفاء والخير يرمز إليه اللون الأبيض، وعالم الشر والظلم والظلام يرمز إليه اللون الأسود، وبذلك يكون التماهي والتفاعل بين الخطابين الأيقوني واللفظي قد تحقق بنوع من المقصدية تأخذ أفق انتظار القارئ بعين الاعتبار.

العالم ينمو ويتطور وفق قانون الجدل، كذلك جاء النص متناسلا عبر أسئلة تطرح الشيء ونقيضه، تثبت وتنفي، وعبر شخصيات تجسد مواقف ومبادئ متناقضة. فالأب كما صورته بعض النصوص رمز لثقافة أبيسية وصفها السارد بـ"لعنة الذكور" في إحدى قصصه؛ ثقافة ما زالت سائدة في عصر عرف الكثير من التحولات، تعطي الأحقية للأب حتى لو كان مخطئا ليقف حاجزا أمام الأبناء التواقين إلى التحرر، وقس على ذلك العديد من اللحظات السرية التي تجسد تناقض الرؤى والفكر، وتكشف عن خداع بعض الشخصيات لنفسها، لما تلجأ إلى ممارسة شيء يتنافى مع ما تدعي أنها تؤمن به.

الكثافة الجمالية

تنهض المجموعة القصصية على تقنية أساسية من تقنيات القصة أو لنقل بشكل أكثر دقة القصة القصيرة جدا، ويتعلق الأمر بتقنية الحذف الذي شغله المؤلف في كل نصوصه. فالحذف هنا دال، يساهم في تحقيق التكثيف الجمالي، ويخلص النص من التفاصيل والجزئيات، التي لم تعد مقبولة في ظل عصر ينبذ الحشو والبطء، ويبدو المؤلف واعيا بهذا التغيير الذي لحق نظرية الأجناس الأدبية، لما يقول: "اشتدت عليه الحياة، إنها الأزمة المادية والنفسية التي يعاني منها الكثير في المجتمعات المعاصرة، بسبب سرعة الحياة وتحكم النسق في النفس الإنسانية ومراقبته لها لحظة بلحظة"[3]. فسرعة الحياة ومشاغلها الكثيرة هي التي فرضت حاليا القصة القصيرة جدا عوض الرواية وحتى القصة القصيرة نفسها.

من جهة أخرى يفتح هذا الحذف، الذي جسدته نقط الحذف الكثيرة أو الذي جسده استحضار الرمز(أبولو، الذئاب...) النص على التأويل اللامتناهي كما دعا إلى ذلك التفكيكيون الذين قوَّضوا مركزية المعنى الواحد. فالنص تتخلله بياضات بالجملة، وما على القارئ سوى ملئها، ما دام النص آلة كسولة سرعان ما تتوسل بالقارئ ليقوم بجزء من مهامها على حد تعبير السيميائي الإيطالي، أمبرتو إيكو [4].

غير أن تأويل هذا النص الذي يحتشد الهامشي بأسلوب مكثف، ليس سهلا، بل هو أمر يحتاج إلى قارئ رصين محصن بمعرفة فلسفية أو إلى ذخيرة بمفهوم منظري نظرية التلقي، تمكنه من مزاولة فعل القراءة بالطريقة الأمثل.

إن هذا التكثيف، الذي تجلى كذلك من خلال قصر الجمل وسلاستها، والنهاية المفتوحة، دفعنا إلى الخروج بخلاصة مفادها أننا أمام قصص قصيرة جدا، تخلق أسئلة كثيرة ومقلقة لدى متلقيها، وبذلك تكون هذه القراءة المتواضعة التي قمنا بها لهذه النصوص الشيقة والممتعة لياسين باهي، لا تعدو أن تكون مجرد قراءة من ضمن قراءات أخرى متعددة يتيحها النص الذي يطرح أسئلة إشكالية وشائكة ينتظر منا، كمتلقين، أن نجيب عنها.

= = = = =

الهوامش

(1) باهي، ياسين. هكذا حكم... دار الوطن للطباعة الصحافة والنشر، 2014.

(2) نفسه، ص. 7.

(3) نفسه، ص. 9.

(4) إيكو ، أمبرتو. 6 نزهات في غابة السرد. تر: بنكراد، سعيد. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2005، ص.20.

غلاف هذا حكم لياسين باهي

D 25 كانون الأول (ديسمبر) 2014     A حسين أوعسري     C 1 تعليقات