هدى الكناني - العراق
لم تدور حول نفسك كالنحلة؟
تسير مسرعة في ذلك الشارع العريق في أحد أحياء العاصمة القديمة، لتلحق بآخر حافلة توصلها لبيتها، وفي خضم ذلك تكاد تصدم بشاب أسمر طويل. تتفاداه في آخر لحظة وتواصل السير بعد أن رددت بعفوية تامة: "ألا تزال تدور حول نفسك وتتمتم بكلام لا افهمه؟"
عندما تمتمت بتلك الكلمات خففت من سرعة سيرها وشهقت ذاكرتها بضحكات ناعمة، دغدغت قلبها بعبق ذاك الإحساس اللذيذ، ليرسم ابتسامة حنين على وجه أتعبته تلك الملامح الجدية التي اعتادت أن تدثر وجهها بها.
"يا ربي، إذاً فهو لا يزال في البلاد وما غادرها إلى باريس بعد؟" وكأن هذا الخاطر قد أراحها ودعاها لتبطئ في سيرها، فقد أضناها جريها وراء الحافلة وكأن ستارا فُتح على أحداث أجمل مسرحية مرت بها منذ سنة خلت، فتدفقت أحداث عملها في ذلك الفندق الكبير كتدفق جدول غافٍ تحت دثار جليد أذابه دفء تلك الذكريات كما يذيب الربيع جليد جدول تلحف به طوال الشتاء.
كان يعمل مديراً للحجز في الفندق حين قَدَمَت هي وصديقتها للعمل في بدالته بعد أوقات الدوام الرسمي براتب مجزٍ. نجحت بالمقابلة لإجادتها اللغة الإنجليزية وفشلت صديقتها. كان يرقبها في رواحها ومجيئها وخاصة حين تترك رسالة في صندوق الرسائل (pigeonhole ) الخاص بقسمها لأحد نزلاء الفندق.
كثر الطامحين لكسب ودها، كونها اصغر وأجمل العاملات، من أمن الفندق إلى العرب العاملين فيه. ما تجاوبت مع أي منهم، بل كبلت أنوثتها وأطلقت العنان لأحلامها البسيطة، العذبة كأحلام سندريلا، تلفعت بهاجس الانتظار لتلك النبضة التي ستغزو قلبها بلا استئذان.
تذكرت ذاك اليوم الذي رأته فيه لأول مرة، حين أرسلها مسئولها في العمل وهو صديقه المقرب لبناني الأصل، وبجدية تامة تكلم معها وأعطاها أمرا بالذهاب إلى المسيو (بنزاري) فهو يطلبها لأمر هام.
سألته بدهشة ومن يكون المسيو (بنزاري)؟ أشاح بوجهه عنها قائلا: "هو يقتلني في تعلم العربية كل ليلة ويكاد يغمى عليه حين تمر أمامه بعطرها وهي تجهل من هو؟"
تفتح عينيها وتكرر "من يكون؟"
"إنه مدير الحجز حيث غرفته الزجاجية الأنيقة في نفس دور قسمنا."
"ألا يمكن لأحدى الزميلات أن تقوم بذلك بدلا عني؟ فأنا على الخط مع نزيل يود الاتصال بزوجته في هولندا في ذكرى زواجهما، please "
فرسم على وجهه الضاحك ملامح جدية وأضاف:
"إذا تعصين أوامري؛ أنا الذي اخترتك لتكوني الموظفة المثالية لهذا الشهر"
"لا سأذهب، ما بك اليوم؟ أمهلني لحظات، مسكين ذاك النزيل، لقد توسلني كثيرا ليتصل بزوجته، إنها ذكرى زواجهما السنوية، ok؟"
"ok"، مضيفا: "لكن هل سيصبر المتيم بنزاري؟"
"هل قلت شيئا؟"
"أبداً"
ذهبت إلى المسيو بنزاري بعد أن أكملت ما أخبرته به، دقت الباب بأناملها وكأنها تدق على طبلة قلبه لتلهبها حتى كاد أن يغص بأنفاسه.
قام من وراء مكتبه ودار حول نفسه وتمتم بكلمات ما فهمت منها حرفا، فهو لا يجيد اللهجة العراقية وهي لا تفهم اللهجة المغربية، ويتكلم الفرنسية وهي لا تجيدها، بل تتحدث الإنجليزية وهو لا يفهمها.
ظلت فاغرة فاها، تصيخ السمع وما فهمت إلا وهو يُشير نحو pigeonhole. يلوح بيديه متحدثا وما فهمت شيئا منه على الإطلاق. أنقذ غابي الموقف بعد أن وبخه بالفرنسية وأخبرها أنه يقول لا تضعي الرسائل الخاصة بالنزلاء في المكان المخصص بقسم الحجز (reservation)، بل الذي جنبه فهو الذي يعود لقسمنا.
"آه فهمت، أهذا كل شيء هل أنصرف؟"
"نعم"
استمرت على هذا المنوال حتى جاء رفض الوزارة التي كانت تعمل بها، بعدم الموافقة على العمل بعد أوقات الدوام الرسمي، وقد وقع الخبر كالصاعقة عليها؟ فستحرم من الدخل الذي يعينها وعائلتها على مطالب الحياة، وبالنسبة إليه سينتهي أمله في التقرب منها. غابي الوحيد الذي سينعم بالراحة من حصص تعليم اللغة العربية له.
استعد للوداع بإحضار سلة حلوى صغيرة مصفوفة كما تصف الأزاهير وحفظ جملاً ليرددها أمامها، لكن ما أن رأى الدمعات تنهمر من عينيها، حتى كادت الحلوى أن تقع من بين يديه وبدأ التلعثم. وكالعادة انقذ غابي الموقف بأن تلَقَفَ الحلوى وأمر أحدى البنات أن تسرع بتوزيعها على القسم.
غادرتهم، بيد أن القدر خطّط لهم لقاءا آخر. ففي أحد الأيام وقفت متكئة على سياج النهر حيث سكنها على بُعد أمتار قليلة منه وحيث يقع الفندق على امتداده، تراقب غروب الشمس لتشاهد النهر يبتلعها شعاعا شعاعا، كجائع نهم ينقض على وليمته انقضاضا حتى يأتي على آخرها، فينهال مصّا لنخاع عظامها واحدا تلو الآخر.
رأت شخصا بدا لها مألوفا وهو يجري مرتديا بدلة رياضيه. تمتم بكلام ودار دورة حول نفسه، حين رآها. أبطأت سيرها قليلا وقفلت راجعة، مرددة: "لا فائدة تُرجى منه لن ينطق بحرف مفهوم".
تجد في سيرها في ذلك الشارع العتيق مترنمة بتلك اللحظات، ترنم العاشق بأغنية تذكّره بمحبوبته وتحتضنها، كرسام يتأبط أجمل لوحاته.، حتى وقفت مطرقة، تنتظر الحافلة، فأحست بان هناك من يقف على مقربة منها، يحاول إثارة انتباهها بنحنحة خفيفة.
رفعت رأسها، فإذا به أمامها فنظرت إليه بتمعن كما لم تفعل من قبل لتقول في سرها: " يبدو وسيما ولكن فلندعه يتكلم"، وبلغة عربية فصحى واضحة، لو سمعها غابي، لهلّل فرحا قال: "هل بإمكاني الوقوف جنبك؟"
فغرت فاها متعجبة من لغته العربية.
"نعم، إنه مكان عام".
"هلا أخبرتني رقم الحافلة التي ستستلقين؟"
"رقم 245".
" هل تأذنين لي بانتظارها معك؟"
تصمت لحظة محاولة الإجابة ثم لاحت على وجهها ابتسامة عملت جاهدة على إخفائها.
سأل: "لِمَ الابتسامة؟"
"أصدقني القول، لم تدور حول نفسك كالنحلة كلما رأيتني؟"
"أنا لا أدور؟ لكني ما أن أتهيأ لإلقاء التحية من اليمين مثلا، فإذا بك وبخطوات طويلة متسارعة تقفين بعيدا عني بعشرات الأمتار فأظل أدور بحثا عن الاتجاه الذي أنت فيه؟ أعداءة أنت؟"
"لا، لكنني تربيت مع أولاد عائلتي والصبية سريعو الحركة".
" بل أنت آنسة الهروب؛ هل ستهربين مرة أخرى؟"
"نعم".
"oh mon dieu"
"الفرنسية، مرة أخرى."
"إلى أين ستذهبين؟"
" إلى حيث أردت اصطحابي قبل عام من الآن؟"
"إلى باريس."
"إلى باريس إذاً، فقد اختنقت غربة بعد رحيل الأهل".
"هل ستأتين معي إلى باريس؟"
بعفوية تامة تجيبه: "وَخّا" (وتعني ok باللهجة المغربية).
ضحك وأطلق صرخة مرحة: "وتعرفين لهجتي؟"
"نعم تعلمتها منذ أول دورة درتها حول نفسك".
"كم أتعبتني!"
"أنا عربية وأنت كذلك، فهل أطلب الكثير لتكلمني بلغتي لأفهمك؟"
◄ هدى الكناني
▼ موضوعاتي
8 مشاركة منتدى
لم تدور حول نفسك كالنحلة؟, إبراهيم يوسف - لبنان | 28 آذار (مارس) 2015 - 16:51 1
هدى الكناني- العراق
تلقيت في الماضي دعوة كريمة على العشاء، من أسرة تونسية وأنا في الخارج.. ارتبكت وكنت محرجا للغاية وأنا أحاول التعبير عما أريد قوله بالعربية..!؟ دون أن تكون لغتي العامية مفهومة.. ولا كنت أفهم إلاّ القليل مما يقولونه.. ثم لجأنا حسما للارتباك الحاصل إلى الفرنسية لغة للتخاطب بيننا..! وهو أمر مؤسف أن يلجأ العرب إلى لغة أجنبية للتفاهم فيما بينهم.
1. لم تدور حول نفسك كالنحلة؟, 4 نيسان (أبريل) 2015, 12:02, ::::: هدى الكناني
الاستاذ ابراهيم يوسف
نعم يا سيدي
شيء مؤسف فلقد رحل الاستعمار وخلع عنه ما سكه القديم لكنه كل يوم يدثر وجهه بماسك جديد
لكننا اوعى من زمان بكثير ونستخدم تقنياتهم الحديثة ، فلكل سلاح حدين
عطرني مرورك استاذ
لم تدور حول نفسك كالنحلة؟, احلام مهدي -العراق | 29 آذار (مارس) 2015 - 12:11 2
بلغتنا العربية الجميلة قال نزار قباني اجمل الكلمات في قارئة الفنجان وغناها العندليب عبد الحليم حافظ بصوته الرومانسي وهذه الكلمات هي .....الحب سيبقى ياولدي احلى الاقدار ... فهل حقاً ان الحب قدر؟ ....وان افتراق البطلة عن حبيبها قدر ؟وهل هو القدر الذي جمعها بحبيبها مرة ثانية ؟ النهايات السعيدة للمحبين تفرحنا ولكن للاسف ليست كل النهايات سعيدة .. قصتك هذه تبعث على التفاؤل كما انك ابتعدت عن طابع الحزن الذي يطغى على ماتكتبين سلمت اناملك ياهدى فقد زرعت فينا املاً بان القادم افضل باذن الله
1. لم تدور حول نفسك كالنحلة؟, 4 نيسان (أبريل) 2015, 11:57, ::::: هدى الكناني
احلام مهدي
نعم هو اجمل الاقدار
لكنه احيانا يزلزلنا وياخذ معه كل شيء
واحيانا يزلزلنا ليهبنا احلى شيء
عسى ان تكون اقدارنا حلوة
ليكن القادم من ايامك خير
وعسى الاسم الذي اعطوك اياه
يحمل لك تحقيق حلم غاف بين الجفون
دمتي
لم تدور حول نفسك كالنحلة؟, وداد الشاهين العراق | 29 آذار (مارس) 2015 - 14:59 3
غاليتي مهما عظم كبرياء القلب لابد ان ينحني لمن احبه بصدق. وانا أقرأ كلماتك تذكرت ذكريات ايام مضت فابتسمت .انت ايضا ابتسمي لأجمل الذكريات وتجاهلي اتعسها .فرحت بهذه النمطية الجديدة في كتابتك وفقك الله.
1. لم تدور حول نفسك كالنحلة؟, 4 نيسان (أبريل) 2015, 11:49, ::::: هدى الكناني
وداد الشاهين
نعم يا غاليتي
انها لذكريات جميلة حين كانت رؤوسنا تتلاقى لنسر لبعضنا تلك الأسرار الصغيرة الكبيرة
قد يكن من اسررن بها فارقنا
لكن لذتها بقيت لتدغدغ ذاكرتنا باجمل الايام
دام مرورك
لم تدور حول نفسك كالنحلة؟, مريم -القدس | 29 آذار (مارس) 2015 - 18:17 4
أصبحنا ضحايا الحب ،فالحب الذي قد يبدو في زمن ما علاجاً وخشبة خلاصنا ،قد يغدو في أية لحظة أمام هول الفراق والقطيعة داءنا الذي لا دواء له ،أذكر أنه حدث قبل أعوام أن نشر الأطباء بمناسبة عيد الحب ، تحذيراً تحت عنوان كبير " الحب يضر بصحتك !" مستعرضين قائمة بالأمراض الخطيرة التي قد تفتك بالعاشق ، كأمراض السكري والقلب والضغط والجلطة . مؤكدين تلك المقولة :
" خذ من الحب ما شئت وخذ بقدره متاعب قلب ".كما أن الوصال يقتل الحب " هذا ما توصل إليه علماء النفس . وقد قال جميل بثينة قبلهم :
"يموت الهوى مني إذا لاقيتها * ويحيا إذا فارقتها فيعود "
من هذا المنطلق أصبحنا ندور حول أنفسنا كالنحلة !
تحياتي
1. لم تدور حول نفسك كالنحلة؟, 4 نيسان (أبريل) 2015, 11:29, ::::: هدى الكناني
مريم القدس
كلماتك بحد ذاتها مشاركة، يتوقف عندها الكثيرون
اشكر لك ما رفدت به مشاركتي
ولكن هل استشف من كلماتك ان اسلوبي القديم يعجبك أكثر؟
لاني محتارة بين اسلوب درجت عليه كوني في بداياتي
وبين من يقدم لي النصح بان اتحدى نفسي في التغيير
شكري ومحبتي
لم تدور حول نفسك كالنحلة؟, هدى أبو غنيمة الأردن عمان | 30 آذار (مارس) 2015 - 16:56 5
أ/هدى عزيزتي محاولة جديدة مختلفة عماسبق ومشوقة للقارئ سررت بهذه المحاولة أرجو لك كل الخير والتوفيق .
1. لم تدور حول نفسك كالنحلة؟, 4 نيسان (أبريل) 2015, 11:20, ::::: هدى الكناني
الاستاذة هدى ابو غنيمة
شهادة اعتز بها من ناقدة واستاذة
فهي محاولة لتغيير ما تعود عليه القراء نزولا عند توجيهاتك والاساتذة الاخرين احمد الله انها اعجبتك
دام مرورك يا حنان عود الند المعبق ثقافة
لم تدور حول نفسك كالنحلة؟, ايناس ثابت اليمن | 31 آذار (مارس) 2015 - 17:24 6
الحب التقاء أرواح وتألفها، تنصهر فيه اللغات والحدود.
جمال لغتك وقوتها، والرومانسية والاحساس العالي لازال مرافقا لنصك وان اختلف عما سبق.
كل المحبة لك.
1. لم تدور حول نفسك كالنحلة؟, 4 نيسان (أبريل) 2015, 11:14, ::::: هدى الكناني
ايناس ثابت اليمن
اشكر لك جمال محبتك وتقديرك لمشاركتي فلقد كنت متخوفة جدا
لكن كلماتك أذهبت خوفي.
دام مرورك العطر عزيزتي
لم تدور حول نفسك كالنحلة؟, زينب من العراق | 2 نيسان (أبريل) 2015 - 17:50 7
روووعة ابداع دائماً معلمتنا على الذ انواع الخيال... عاشت ايدج حبيبي
1. لم تدور حول نفسك كالنحلة؟, 5 نيسان (أبريل) 2015, 07:07, ::::: هدى الكناني
زينب من العراق
اشكرك غاليتي على هكذا كلمات تهز الاعماق.
يسعدني مرورك دوما
لم تدور حول نفسك كالنحلة؟, جليلة الخليع /المغرب | 9 نيسان (أبريل) 2015 - 21:40 8
ودرنا مع اللغة الجميلة ، والسرد الأنيق حول مدارات الصدف ،فكان القلب بالواجهة والحب باليد يرسم خطوط الحظ المعقدة ، ليمنحها جناحين وتطير إلى حيث الجمال والنقاء.
جميلة قصتك هدى الغالية، تأبطنا معها يد الخيال وأسلمنا فيها عيوننا للحلم.
دمت مبدعة أنيقة هدى الحببة
محبتي والورد.
1. لم تدور حول نفسك كالنحلة؟, 11 نيسان (أبريل) 2015, 21:38, ::::: هدى الكناني
جليلة الخليع
ودمت رقيقة السرد والاحساس
يا ارستقراطية الحرف
مودتي