عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

هدى الكناني - العراق

مجرة ولودة


هدى الكنانياسمك وشمي

كل مرة تؤذيني أو تُخطئ، أغزل من كلمات الحب شباكا، أطرّزها بحروف أسمك؛ لأصطاد لك بها الصفح والغفران من سويداء قلب يموج ثورة توجعه حد الجزع.

كم مرة أعدت لبحيرة حبنا صفاءً، عَكَرْتَه بأحجار أخطائك العمياء. هذه المرة طعنتك النجلاء، فستان من الساتان والتل الأبيض، مقتلي؛ ليست هي الأجمل ولا الأفضل. لكن أتراه حظي العاثر الذي يطل من عيني خَجِلا متعثرا، جعل قلبك يتعثر في الوصول إلي؟ أم حظها المتوثب توقا وتغنجا، سرق المبادرة من عينيك؟

سأشم جسدي ووجهي وجفوني بحروف اسمك وسأحتمل كل الأوجاع، لأخرج كائنا غريبا آخر، علّي أكف عن حبك.

مجرة ولودة

دعني أخلع جسدا ممزقا فشلا ومهترئا خيبات، لأرجع أثيرية الروح؛ ذرة في كون شاسع، ضاعت في دهاليز جسد وعالم مادي، أراد نحر روحها وما أستطاع، فذبح القلب من الأذين إلى البطين فصيّره نصفين، التهمت نصفه الأول النيران، ومات الآخر تجمدا وجزعا، فعطلت فيه المشاعر والإحساس.

سأعود إلى كون خصب، ولود، مليء بالمجرات، علّ مجرة خصبة وَلُود تتناسل نجوما، أقمارا و كواكب، تتبنى روحي، تحتضنها وتلفها بنسيج من غبار النجوم كقِماط طفل. يزورنا قمر مغامر ومسافر منذ الأزل، يحكي لنا كل يوم مغامرة مفعمة بالتشويق والصور وأغفو على تهويدة نجوم فرحات ينشدن تراتيل أمل. يزددن مع ولادة كل مجرة نجما، كوكبا أو قمرا، عليّ أغفو قريرة العين أسبح في ضيائها بأمان لآخر الدهر.

في حضورك لن ألوذ بكتاب

رفع رأسه عن الكتاب الذي يقرأه وتمتم مخاطبا نفسه: "ويح قلبي. ما أنساني عطرها، كل ذاك الغياب. أيعقل أن تكون هنا؟ فلطالما كان عطرها يسبقها حتى قبل أن تفتح الباب، بالنسبة لي على الأقل".

تمسّك بالكتاب بقوة بكلتي يديه ولاذ به وكأنه ساتره الذي يلوذ به من وابل ترسانتها التي تمطر رقة وحضورا آسرا، فاستفاقت رغبة كانت نائمة في عروقه، تزأر وتزمجر وتُشِب في قلبه النيران.

دلفت الحجرة غافلة، فاجأتها رؤيته ووقفت معقودة اللسان كتلميذ صغير أمام أستاذ جليل؛ تلعثمت وبالكاد حَيته، وعيناها مفتوحتان على مصراعيهما، تعِبُ النظر كما يعب العطشان الماء. أحتضر كبرياؤها حتى خافت أن يموت بين يدي قصيدة تزفرها عيناه.

"كم أعشق الأقمار التي ترصّع سواد ليل شعره حتى ليتضاعف أملي يقينا من أنها قد تنير القادم من الأيام، ليتك تقتنع أن سنواتك العشر التي تزرعها أشواكا في درب عشقنا، هي جسري الذي آمل يوما ما، أن يوصلني إلى قلبك وينجيني من ضياعي بعيدة عنك. وأن ليلة جمعتنا، كانت هاربة من إحدى قصور ألف ليلة وليلة بغموضها الحنون ودفئها المسعور وكلماتها المنتحرة بين براثن عصور".

مخاطبا نفسه: "ما كنت أود رؤيتها قبل أن أمارس كل طقوس ضبط النفس البوذية والهندوسية وكل ما ذُكر في الكتب السماوية، كي لا تنهار مقاومتي لذلك الوجه الطافح رقة حرير أِستُعير من شرانق الأحلام، وذلك الخال الذي يطرز خدها الأيمن كنجم قطبي يسكن سماءً صافية".

حاول ارتداء ثوب الهدوء والوقار، لكن الرداء بدأ يتفتق ويتمزق، فما عاد يتسع لارتعاشة لهفته لضمها إلى صدره ولثم جبينها والغرق في غدائر شعرها فتمسك بكتابه أكثر من ذي قبل.

هدأت أنفاسها اللاهثة وسألته: "متى عدت؟".

أبتلع ريقه جاهداً وسعل: "منذ فترة قليلة".

"حمداً لله على سلامتك، لن أشغلك أكثر، برعاية الله".

انسحبت متنهدة، متأثرة، تحاول إخفاء دمعة متأهبة للسقوط، لتحرق كبرياء مهترئ المقاومة. لم تعد عيناه قادرتين على رؤية حرف واحد في الكتاب وفقد الرغبة في كل شيء. رمى الكتاب قائلا:

"ليتني أسفح كلمات الكتب كافة وأذبحها قربانا في محراب عينيك ولتنبجس ثورة من شقائق النعمان ترتديني حد الاختناق. آه يا صغيرتي وإن رحل صوتك، أعيش الحاضر بماضي لحظات قليلة قضيتها معك".

يخرج إلى الشرفة علّ النسمات تخفف حرارة نيران سرت في عروقه كما تسري النار في الهشيم.

"يا قلب؛ أنت في حضورها كنجم محتضر، ما أن تغادرك، تلفظ آخر أنوارك".

سارع الخطى نازلا محاولا اللحاق بها، مناديا اسمها وكأنه يرتشفه حرفا بعد آخر ليطفئ ظمأ قلبه.
توقفت، ما أن سمعته يهتف باسمها وفستانها يرفرف كأجنحة فراشة مفعمة بالحياة.

بادرته: "لم بعدت؟ لم تأخرت؟"

يصمت.

"ألن تجيب؟".

يرد: "كلا".

تفتح عينيها على وسعهما لتتألق بذلك البريق الماسي وكأنها أنوار مذنب عجوز غاب عن الأرض مائة عام وعاد ليودع كل ألقه فيهما.

وبخطوة واحدة واسعة ومفاجئة احتوى وجهها بين كفيه:

"كان بعدك عني يقتلني باليوم ألف مرة ومرة وأملي بيوم أراك فيه وأحتويك بين ذراعي، هاجسي الذي أبقاني حيا. كم ذبت شوقا للغرق في ضحكة عينيك وغدائر شعرك، بل اشتقت حتى لنوبات جنونك التي تمسح غبار الملل عن أيامي".

وأضاف: "منذ هذه اللحظة، أبرء إليك من بُعد أو نسيان يلجمني ويكمم فمي، فلا ينطق باسمك أو يمنعني من أن أحتويك بين ذراعي".

D 27 تشرين الأول (أكتوبر) 2014     A هدى الكناني     C 18 تعليقات

9 مشاركة منتدى

في العدد نفسه

كلمة العدد 101: الكتابة المحايدة جندريا

نص الصـورة: فرانكشتاين في بغداد لأحمد سعداوي

بناء المقاطع الصوتية ودلالتها في شعر البحتري

الإبداع في مجتمع المعرفة

مظاهر التّفكير الخرافي في المجتمع الجزائري