فنار عبد الغني - لبنان
إيناس
كل شيء بدا في ظاهره غريبا. دأبها المفاجئ على زيارتي بشكل غير متوقع، حضورها الغامض في أوقات أكثر غموضا، هيئتها المثيرة للريبة. كل ذلك حدث أثناء فترة بالكاد كنت أذكرها فيها. ظلت تأتيني على غير عهدي بها: الوجه الملائكي البديع الذي لا تفارقه الابتسامة الواسعة التلقائية؛ ابتسامة تعاند النكبة بكل أبعادها؛ ابتسامة تصر على البقاء؛ العينان واسعتا المدى حيث تستلقي بداخلهما حدائق النعنع الجليلي؛ الخدان النضران؛ الضحكة التي تفوق أناشيد النصر الذي نحلم به ليل نهار؛ نظراتها التي تغدق على عالم اللاجئين حبا وطمأنينة. كل تلك الملامح قد ذوت عنها. لقد أكتسى وجهها الملائكي شحوبا طغى على قسماته التي كانت تنضح حياة.
حضورها بهذه الصورة الغريبة، المريبة، أثار قلقي، وصمتها أثار خوفي بقدر أكبر، وهي المشهود لها بطيب الكلام. كيف كانت تأتي؟ وكيف امتلكت قدرة خارقة على اختراق المسافات؟ لقد كان من عاداتها المميزة المشي. كانت تمشي يوميا مسافة طويلة من بيتها الكائن في عمق مدينة صيدا الأثرية البحرية إلى وسطها حيث كانت تقع مدرسة الصخرة، مدرستنا التي تلقينا فيها دراستنا على مدى عشر سنوات.
لا شك أن تلك المدة الطويلة أكسبتها عادة المشي السريع، والقدرة على تحدي عالم القهر والفقر والشتات والظلم الذي كنا جميعا نعاني من آثاره كأطفال وكلاجئين. كل ذلك كان يقلقني. لكنني أنا بدوري آثرت الصمت وقررت ألا أفكر بالأمر.
قررت تأجيل التفكير بالأمر إلى وقت لاحق، ريثما أحل بعض المشاكل والضغوط التي كنت أعاني منها في تلك الفترة العصيبة من حياتي. لذلك لم أشأ أن أشغل نفسي بما يثير فيها القلق والخوف، وبما يفوق قدرتي على الاحتمال أيضا. لكن يبدو أنها كانت تريد أن تخبرني أمرا مهيبا، أمرا يتعلق ربما بحياتها الحاضرة أو بمستقبلها. ربما أحست بقلقي فالتزمت الصمت.
لم تكن إيناس على قدر عظيم من الجمال والجاذبية فحسب، بل كانت تتمتع بحظ وافر من البراءة والتقى. كانت من أولئك الأشخاص القلائل الذين يناضلون للمحافظة على فطرتهم النقية. أمضينا عشر سنوات معا على مقاعد الدراسة. كانت ودودة جدا ورقيقة القلب، وأكثر ما كان يجذبني إليها هو إيمانها الصادق.
كان لها مكانة مرموقة في قلبي، لم يحظ بها أحد من رفاق صفنا أو أي صديقة أخرى لي. عندما أنهينا المرحلة الإعدادية، افترقنا، ذهبت كل واحدة منا لتشق طريقها في الحياة. علمت فيما بعد أنها تزوجت. لقد تم عقد قرانها بعيد الانتهاء من امتحانات المدرسة. تزوجت وسافرت سريعا. لم تعلمني بذلك، ولم تدعني إلى حفل زفافها.
لقد أثار سفرها المفاجئ حزني، كنت أتوقع أنها سوف تتزوج حالما تنهي المرحلة الإعدادية، لأن من عادات عائلتها الحرص على تزويج البنات في سن مبكر كما حدث ذلك مع بنات عمها من قبل، لكن ليس بهذه السرعة. ويبدو أنها كانت قد خطبت في وقت سابق، وأخفت الأمر عنا في الصف. لكنني سررت حين علمت بأنها تزوجت من قريب لها مثقف وطموح. استقرت إيناس في أميركا اللاتينية. أعتقد أنها عاشت في نيكاراغوا.
تكررت زياراتها غير المنتظرة وفي أوقات غير متوقعة على مدى سنوات. أنا من ناحيتي، كنت غارقة في مشاغل الحياة وتفاصيلها وضغوطها الساحقة، لذلك لم أهتم بتفسير تلك الزيارات رغم القلق التي كانت تسببه لي. كنت أحسبها تعاتبني لأنني لم أعد أتذكرها. اليوم فقط وبعد مرور كل تلك السنوات، حظيت بالعثور على السر.
في الماضي عندما كنت أفكر بالأمر، كنت أفسر أن الأمر يعود لإحساس الإنسان الأصيل بالحنين والشوق لمنبت أجداده، وللغتهم ولعاداتهم ولكل ما يتعلق بهم. اعتقدت أيضا أن الأمر يعود للاغتراب نفسه: اغتراب الروح، واغتراب الذات عن نفسها، واقتلاعها من عالمها.
لم أعلم إذا كانت إيناس سعيدة أم حزينة في غربتها، لكن يبدو لي أن روحها كانت تحدسها بحدوث نبأ ما، وكانت تريد إبلاغي بهذا النبأ. ولأنها كانت مؤمنة حقا وروحها طيبة، كانت تبحث عن روح تشبهها لتساعدها. يا لروحها العظيمة! سقى الله تلك الروح، ما أكرمها!
لقد تعلمت من روحها العظيمة أروع درس في الحياة، تعلمت قيمة لم أجدها إلا عند إيناس: قيمة التسامح! كانت دائما كلمات التسامح تجري على لسانها دائما بسبب أو بدونه. "الله يسامحك"، تقولها لكل من يمسها بسوء. هذه العبارة لم أسمعها إلا منها، وهذا يدل على كم الطيبة التي كانت تسكن روحها. أتذكرها كلما مررت بموقف إساءة وظلم، أحيانا أستطيع نطقها وأحيانا لا أقدر، لكنني عندما أذكر إيناس، أكررها بكل صدق وأصفح عن كل من ظلمني. كانت هذه العبارة تزيد وجه إيناس إشراقا.
عادت إيناس إلى صيدا على غير عادة كل من يغادر من اللاجئين الذين يرحلون وتبتلعهم الغربة في ظلماتها وتحيلهم ظلاما حتى لا يستطيع التعرف على ذاته. عاشت إيناس في نفس مخيم اللاجئين حيث أعيش. والتقيت بها عدة مرات في السوق وفي العيادة وفي الجامعة، فقد أخبرتني أختي بأن إيناس قد سجلت معها في قسم التاريخ. سررت كثيرا من أجلها. هذه هي إيناس المكافحة والطموحة. ذهبت والتقيت بها، وقد دعتني إلى زيارتها عدة مرات، ووعدتها بالزيارة، ولم أف بوعدي لها. من المؤكد أنها سامحتني فهي سيدة التسامح.
علمتني إيناس دروسا أخرى في الحياة. كان أهم تلك الدروس ألا أغفل أي إشارة صغيرة أو عفوية تصدر عن أي إنسان. بفضل زياراتها غير المتوقعة، أصبحت من المواظبين على قراءة كتب تفسير الرؤى وأخبار السالكين والعارفين وأسرار عالم الأرواح والقوى الخارقة وكتب التنمية البشرية، وحضرت عدة دورات في التنمية البشرية، واليوم أحتفظ بدفتر صغير أسجل عليه ملاحظاتي وأحلامي والرؤى العظيمة التي تجعلني أكتشف بعض الأسرار الخاصة والعامة.
قبيل رحيلك، رأيتك في ثوب أبيض ناصع، ترتقين درجا لا نهاية له، يشق سقف السماء، ثم صعقت عندما وافتني أخبار منيتك العاجلة مع ملاكيك الصغيرين. علمت أنك كنت صائمة حين صعقتك عجلات سيارة متهورة وألقت بك بعيدا. ثم عدت بعد ذلك إلي، رأيتك مجددا تتألقين في ثوب أبيض ناصع، ظل محافظا على طهارته رغم القذارة التي يغص بها العالم.
فلتسامحيني، لأنني لم أستطع فهم رسائلك. أنا على يقين أنك مسرورة حيث أنت في عالمك الجزل والنقي. أما عالمنا فيزداد بشاعة وقذارة يوما بعد اليوم. هنا البشر يتصارعون ويتطاحنون، يقايضون كرامتهم بأشياء تافهة. يتقاتلون. لا القاتل يعلم لماذا يقتل ولا القتيل يعلم لماذا قُتل.
أما القتلة الحقيقيون، فهم يمرحون في منتجعاتهم، ويعيدون تقسيم ثروات العالم على أنفسهم. عالمنا يزداد فقرا وأمية. الأدمغة الشابة والسواعد الفتية تولي هاربة إلى خارج حدود الأوطان، لتتسول لقمة العيش، أو لتعثر على على فرص حياة جديدة. النساء في عالمنا يستدينون من أجل عمليات التجميل.
لم يعد هناك جميلة تشبهك. والفقراء يزيدون فقرهم فقرا بسبب شرائهم وتكديسهم لأغراض لا يستخدمونها. والأحرار يخطفون من بيوتهم، ومن أحضان ذويهم ليزجوا في غيابات الظلمات الباردة والحارة، والجهال يصفقون لمن يسخر منهم حتى الثمالة.
فلتغفري لي عدم إنصاتي لإشاراتك.
◄ فنار عبد الغني
▼ موضوعاتي
5 مشاركة منتدى
إيناس, حلا ياسين / لبنان | 26 أيار (مايو) 2018 - 17:20 1
قصة تعبر عن معني الحياة، نهاية مؤثرة جدا.
دائما متألقة بالتوفيق
إيناس, rokayya | 27 أيار (مايو) 2018 - 20:03 2
لترفرف روحك يا ايناس بسلام في عالم لا يعرف الا التسامح والمحبة ولك مني عزيزتي فنار كل التقدير على كلماتك الصادقة النابعة من القلب مع تمنياتي لك بالتوفيق الدائم
إيناس, ندى الورد | 28 أيار (مايو) 2018 - 14:48 3
رحمة الله عليك يا إيناس. المسامحة قيمة لا يدركها الا الطيبون
إيناس, هدى الدهان | 1 حزيران (يونيو) 2018 - 08:12 4
لماذا نصور كل من يسافر ان ظلمة الغربة ابتلعته ؟من قال ان الغربة ظلمة اذا كان الوطن هو بلد حروب ومخيمات لاجئين في حين ان كثيرين سافروا ونجحوا واسسوا مكانا لهم في المجتمع هناك وامنو لاولادهم حياة افضل من التي عاشوها بين الخوف والقتل و الجوع والاضطهاد.
ليتها ماعادت.فحتى موتها يدل على تهور الانسان هنا و العالم البشع الذي اصبحنا عليه .
ترى هل ستسامح من يَتّم اولادها ؟
إيناس, عمر عبد العزيز | لبنان | 15 آب (أغسطس) 2018 - 21:55 5
قسوة البلد أجبرتنا على الغربة
و عندما كشرت الغربة عن أنيابها نسينا ما فعل بنا ذاك البلد فعدنا
و عندما فعلنا ندمنا
لا الغربة ابتسمت لنا و لا الوطن
و بينهما روح تعتصر تفكر بعقلها للغربة و بقلبها للوطن
و هذا الصراع يكفي لدفنك على قيد الحياة
رحم الله إيناس مثال لقوة الإرادة و الطيبين في هذا العالم