بقادي الحاج أحمد - السعودية
الأفريقي الأبيض
الصيف في مدينة جدة، مدينة البحر والأسواق، شديد الحرارة والرطوبة. البحر يعطيها الرطوبة العالية فيزيد وقع الحرارة التي تجود بها شمس الصيف. والأسواق تعطيها الزحام. والمصانع تنفث في هذا الجو أبخرتها ودخانها، فيصبح الصيف فيها طاردا للميسورين، ولا يمكث فيها ألا المجبورون راكبو الصعاب.
المدينة الصناعية، كشأن المدن المخططة تخطيطا جيدا، يتوه المرء ليس في الوصول إليها وحسب، ولكن داخلها أيضا. عند دخول المدينة ومراحلها الخمس، تجد اللافتات تعلن عن الأسماء، وكذلك تقف هناك عند الشوارع الرئيسية تحمل الأرقام وأسماء المصانع. ومع ذلك يتوه المرء للتشابه بين مرحلة وأخرى وبين ناحية وثانية.
يقضي سحابة يومه بين المكتب وهوائه المكيف وجولات بين العمال في الأقسام المختلفة حيث للحرارة معدلات قياسية. يوم العمل كثير الأعباء، وتحال إليه كثير من أعباء المدير إذا كان مسافرا، وما أكثر سفره في مثل هذه الشهور من السنة!
كان جالسا خلف مكتبه يفكر في بداية يوم العمل، بعد أن وقع الموظفون والعمال على سجلات الحضور والانصراف اليومي.
استأذن للدخول عليه شاب في الثلاثين من العمر، يرتدى سروالا وقميصا وربطة عنق، ويحمل حقيبة مستندات. خمن الجالس خلف المكتب، أن القادم أحد مندوبي مبيعات، لأنه اعتاد على زياراتهم ليعرضوا خدمات شركاتهم، سواء أكانوا أفارقة أم آسيويين يتحدثون اللغة العربية أو الإنجليزية.
عادة يحضرون بدون مواعيد مسبقة. الواحد منهم كساعي البريد يحضر ليسلم ما يحمل، ثم يعود بما يفيد بأنه سلمه. القليل منهم يتصل أولا ويأخذ موعدا ووصف الموقع، ثم يحضر في الموعد.
القادم هذه المرة لم يبد آسيويا أو أفريقيا. كان القادم طويل القامة. خمن الجالس خلف المكتب أنه أميركي. بعد أن ألقى عليه التحية. أومأ له بالجلوس. سأله القادم : "هل تتحدث الإنجليزية؟"
أجاب: "قليلا."
عرف نفسه بأنه مندوب شركة (...) وأنها تقدم خدمات البريد السريع. سأل محدثه: "هل فهمت؟"
أجاب: "لا، أعد كلامك مره أخرى."
أعاد ما قال وكرر نفس السؤال.
استمرت المحادثة على هذا المنوال: القادم يتحدث بلغة مبسطة، والآخر يستوضحه بعد كل جملة ليشرح أكثر وأكثر. وما أن انتهى من تقديم شركته حتى بانت حبيبات العرق على جبهته. بعد تقديم دليل الشركة وبطاقة العمل، أخبره بأنه سيتصل به عندما يحتاجون لخدمات شركته.
بانتهاء المقابلة ذهب مع ضيفه ليودعه عند باب المكتب. التفت إليه الخارج، وسأله فجأة:
"من أين أنت؟"
"من أفريقيا، هل تعرف أفريقيا؟"
"أنا من السودان."
"إنه بلد طيب وناسه طيبون."
"خيرات السودان كثيرة، ولكن الحروب فيه لا تنطفئ."
"إنك تتحدث الإنجليزية بطلاقة."
"هل أنت أفريقي؟"
"أنا جنوب أفريقي. صحيح أصلي إسكتلندي، لكني أتيت إلى جنوب إفريقيا وعشت فيها منذ سنين."
"أنت إذن من بلاد نلسون مانديلا."
"نعم،" قالها وهو يضغط على نعم، "هناك يسمونه ماديبا حبا له."
"نعم إنه رجل عظيم."
أخذ نفسا عميقا وقال: "ليتك تعرف ما صارت إليه جنوب أفريقيا بعد أن ترك نلسون مانديلا السلطة. كل الوعود تبخرت، أصبحت البلد تعاني، آلت الأمور لأناس ليس لديهم خبرة. فقد الكثير من البيض وظائفهم. لم يعد مبدأ الرجل المناسب في المكان و...
قاطعه قائلا: "قبل أن يأتي نلسون مانديلا للسلطة كان المواطنون في تلك البلاد يجتمعون بالنهار في العمل، ويفرق بينهم الليل ليس في المساكن والمضاجع وحسب، بل في الطرقات وفي النوادي. وأيضا تفرق بينهم الحقوق في التـنقل والتملك والتصويت. كان السكان الأصليون يسكنون إما في ضواحي مثل سويتو (الجحيم الأسود)، أو خلف القضبان في سجن مثل سجن جزيرة روبين. أتحسب من الحالة البائسة التي كانوا يعشون فيها خارج القضبان أن كان ما ينقصهم هو المال ليبنوا بيوتا للسكن فيها مثل الآخرين؟ لا، ما كان ينقصهم هو الوطن. لم يكن لديهم وطن. أتفهم ذلك؟"
ودعه بابتسامة عريضة وعاد إلى مكتبه. جلس على الكرسي وهو يحدق النظر في مجسم الكرة الأرضية إمامه على المكتب، مركزا النظر على البحر، حيث الأمواج تتدافع نحو الساحل، وصوت ارتطامها باليابسة، مع صوت النوارس ورائحة الماء. وزاره طيف الوطن.
◄ بقادي الحاج أحمد
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ