عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

مختارات: صنع الله إبراهيم - مصر

بيروت بيروت


تناولت جواز سفري من ضابط الجوازات الملول، ودسسته في الحقيبة المدلاة من كتفي. ثم حملت حقيبة السفر في يدي اليمنى، وكيس السوق الحرة في اليسرى، وعبرت حاجز الجوازات إلى صالة المطار الصغيرة، دون أن يحفل أحد بتفتيشي ولو من باب الحماية الجمركية.

مضيت إلى نافذة البنك، فاستبدلت خمسين دولارا بسعر أربع ليرات للدولار الواحد. واتجهت إلى الباب الخارجي للمطار، فبلغته بعد خطوات معدودة. كان ثمة صف من سيارات الأجرة، خارج الباب مباشرة، يشرف عليها شرطي يحمل دفترا. ولمحت السعودي بجوار إحداها، وسمعته يطلب من السائق أن يأخذه إلى المنطقة الشرقية.

تقدمت من السيارة التالية وذكرت وجهتي لسائقها، فغادر مقعده ودار حول السيارة. تبعته وناولته حقيبة السفر ليودعها صندوق السيارة الخلفي. ثم مضيت إلى الشرطي وسألته في صوت خافت عن الأجرة التي يتعين دفعها، فقال:

"تلاتين ورقة."

صاح السائق من مكانه عند السيارة:

"تلاتين ما بتسوى. الكل بيدفع أربعين."

زجره الشرطي برفق وهو يشير إلى أن أركب. تمسك السائق بموقفه صائحا:

"ما بدي روح ع الغربية."

عنفه الشرطي: "ولاك ما تصرخ. بتركبه ولا ياخذ السيارة اللي بعدك؟"

استسلم السائق وصاح بي: "عجل يا زلمة."

ركبت في المقعد الخلفي. وانطلق السائق بالسيارة وهو يغمغم لنفسه مزمجرا، وقام بدورة سريعة وضعتنا على الطريق الرئيسي.

بدا طريق المطار مهجورا أكثر من المتوقع. وقد انتشرت الحفر وأكوام الأتربة على جانبيه. وأقبلنا على مجموعة من الجنود توارت خلف أحد هذه الأكوام وأحاطت بمصفحة تحمل عبارة "قوات الردع العربية."

غمغم السائق: "هلق السوريين بيوقفونا."

توقفت سيارتنا أمام الجنود. وفحص أحدهم أوراق السائق ثم طلب جوازي. وبعد أن ألقى نظرة فاحصة داخل السيارة سمح لنا بمواصلة السير.

أشرفنا على مخيم برج البراجنة بمنازله المتواضعة المتلاصقة التي لا تعلو عن طابقين. ومررنا بمجموعة من المسلحين يحملون شارات الكفاح المسلح الفلسطيني على أكتافهم، وقفوا خلف حاجز من البراميل. أبطأ السائق استعدادا للوقوف لكنهم أشاروا لنا بالمرور.

سألني السائق دون أن يرفع عينيه عن الطريق: "وين بالغربية؟"

قلت: "الحمرا، عند سينما بيكاديلي."

بلغنا نهاية المخيم فعبرنا ميدانا صغيرا، وسرنا في محاذاة مخيم صبرا. اعترضنا ثلاثة رجال في ملابس متواضعة. أحاط أحدهم بلفاعة من الصوف. وحمل الثاني "صرة" كبيرة من القماش في يده. خاطب أحدهم السائق:

"المزرعة؟"

رفع السائق ذقنه إلى أعلى بالإيماءة اللبنانية الشهيرة التي تعني النفي. وهم بمواصلة السير، فسأله ذو اللفاعة:

"شو طريقك؟"

أجاب: "الحمرا."

"وليش ما تفوت م المزرعة؟"

"ما بدي."

تدخل عجوز امتلأ وجهه بالغضون: "دخيلك يا شوفور، نحنا تأخرنا، واللي بدك إياه خذه."

صاح السائق: "يا زلمة ما فيّ أفوت من المزرعة. الإخوان هونيك عالقانين."

قال حامل "الصرة": "ولك هادا عند جامع عبد الناصر. ليش ما تفوت من هون دغري للكولا؟"

فكر السائق ثم سأل: "تنزلوا ع الكولا؟"

وافق الثلاثة، فطلب السائق مني أن انتقل إلى المقعد الأمامي ليجلس الثلاثة معا في الخلف. جلست إلى جواره واضعا حقيبة يدي وكيس السجائر والخمر بيننا.

قال وهو يستأنف السير: "هيك انتو يا فلسطينية، مغلبين العالم."

لم يرد عليه أحد. وران الصمت على السيارة بقية الطريق. وبين لحظة وأخرى كنت التقط نظرات العجوز في مرآة السيارة وهي تنتقل بيني وبينه في توجس.

أشرفنا على ميدان آخر. وبعد قليل انحرفنا إلى اليسار، ومررنا بمبنى كبير تعرض لدمار بالغ، فلم تبق من واجهته غير فجوات مظلمة متجاورة.

تتابعت مناظر الدمار بينما كان الظلام ينتشر بسرعة. وكان ثمة حوانيت مغلقة على جانبي الطريق الذي خلا من المارة. وانحنى السائق إلى شارع جانبي ثم توقف بالقرب من جسر علوي.

غادر الثلاثة السيارة وجمعوا من أنفسهم عدة أوراق مالية ناولها العجوز للسائق قائلا: "الله معك."

تفحص السائق النقود ثم صاح: "عشر ورقات؟ ما بتكفي. شو فاكريني؟"

تبادل الرجال الثلاثة النظرات وقال أصغرهم سنا: "هيك بندفع كل مرة."

استقر علينا فجأة كشاف قوي، واقتربت منا سيارة جيب عسكرية. وعندما حاذتنا تبدت على جانبها شارة الكفاح المسلح الفلسطيني.

سب السائق في صوت خافت، ووضع النقود في جيبه، ثم ضغط على المسرع، وانطلقت بنا السيارة.

بلغنا أول الحمرا فهم بالوقوف قائلا: "هون الحمرا."

قلت: "بعد، سأنزل عند السينما."

مضى في الشارع الذي أغلقت حوانيته ومقاهيه، وإن ظهر به قليل من المارة. ثم دلف إلى شارع جانبي. وبدت في عينيه نظرة شاردة كأنما يفكر في معضلة.

هتفت: "رايح فين؟ّ السينما في الشارع نفسه."

قال: "هلق بنشوف."

مال من النافذة وصاح بسائق تكسي آخر: "احجز لي معك يابو حسن."

سألته عما يريد أن يحجزه فقال: "دور المطار."

جعل ينتقل بين الشوارع على غير هدى فقلت: لازم نطلع على شارع الحمرا نفسه. السينما هناك."

لم يرد علي واتجه إلى ناصية تجمع عندها عدد من الشبان المسلحين بالمدافع الرشاشة. أبرز رأسه من النافذة صائحا:

"مرحبا يا شباب. وين سينما بيكادلي؟"

اقترب أحدهم منا وأراح مدفعه على حافة النافذة. ألفيته صبيا صغير السن لم يكد شاربه يتجلى. تأملني في إمعان، ثم تحول إلى السائق وشرح له الطريق.

قال ونحن نستأنف السير: "هادي الشوارع كلها متل بعضها."

قلت محاولا تقليد اللهجة اللبنانية: "باين عليك ما بتعرف شوارع بيروت منيح."

"نحنا جينا من الجنوب في التمانية وسبعين بعد الغزو الإسرائيلي."

خرجنا إلى شارع الحمرا، وتبينت السينما بعد لحظات، فطلبت منه أن يدخل الشارع المجاور لها. وتعرفت على الفندق الذي أقصده بصعوبة، إذ كان الظلام يلف كل شيء.

= = =

مقطع من رواية بعنوان بيروت بيروت. المؤلف: صنع الله إبراهيم (مصر). الناشر: دار المستقبل العربي، لبنان (1988). الطبعة الثانية.

JPEG - 32.6 كيليبايت
غلاف: بيروت بيروت
D 1 حزيران (يونيو) 2008     A عود الند: مختارات     C 0 تعليقات