إبراهيم قاسم يوسف - لبنان
الحمل والليلة المباركة
اختار أن يكون مع الشراع في مواجهة الريح، هكذا بلغ بر الأمان، على ظهر زورق مقلوب.
على حدود الماضي البعيد، عندما نالت جدتي لأبي نصيبها من ميراث أبويها: ملكية واسعة من الأرض المروية الخصبة، أحسن جدي زرعها وإدارتها، فأضاف إليها ملكية أخرى، تكاد تساويها أو تربو عليها.
في هذا البيت الميسور نشأ أبي فتى وسيما. نال قسطا وافرا من التعليم، أكسبه منزلة معتبرة في الريف، وأتاح له لاحقا أن يعين مدرسا رسميا، هو أول (أستاذ) من أبناء القرية والجوار.
لهذا كله، كان أبي صاحب حظوة رفيعة، في وجدان الصبايا وعيونهن. إحداهن، لعلها الأحلى فتنته بحسنها فتزوجها، تلك هي أمي.
في الجزء الثاني من الحكاية امرأة أخرى. حملتها إلينا مدينة عصية على أهل الريف، قادها نصيبها أو سوء طالعها، عندما أوفدتها إلينا وزارة التربية والفنون الجميلة، معلمة وحيدة في مدرسة البنات الحديثة.
كنت في السابعة من عمري، عندما انفصل أبواي بسبب المعلمة الوافدة، لأنها امتازت عن أمي بطلاوة الحديث، بالأناقة وحسن الإدراك، ناهيك عن ثقافة ملحوظة، كانت أمي تفتقر إليها. مهما يكن الأمر، فقد تسللت إلى قلب أبي فسلبته إرادته، واستولت على مشاعره، وانتزعته عنوة من أهله وزوجته، ثم رحلت معه، ليتزوجا ويعملا بعيدا عن دياره.
عندما تعهدتني جدتي للعيش في رعايتها، كنا نسكن بيتا من الطين، كثيرا ما يتسرب الماء من سطحه وقت الشتاء ويطال مخادعنا؛ ذلك البيت المتواضع البسيط، طالما حمل إلى قلبي الأمان أوقات الرعد المخيف في ليالي الشتاء الباردة الصعبة، هو بعض ما يعنيني من الحكاية.
يتألف من طبقتين: الطبقة السفلى، وفيها حظيرة للمواشي والدواجن، كما تحتوي على مخزن للمؤونة، وباحة مسيجة تمتد إلى الأمام. والطبقة الثانية أو (العلية) كما كانوا يسمونها، ولا ترتفع إلا بمقدار ما يتيح للماشية حرية الحركة في الدخول أو الخروج، وتتصل بدرج ضيق مكشوف الجانب يستلزم الحيطة والحذر، في الصعود وفي النزول، في الليل وأثناء الجليد، وينتهي إلى باب الدار مباشرة حيث يفضي إلى غرفتين، ومطبخ صغير في الجهة المقابلة للمدخل. والمفارقة في هذا البيت الريفي المتواضع زجاج ملون، جميل كزجاج الكنائس، يزين نافذتين وأعلى المدخل. هذا الزجاج، طالما سحرتني ألوانه، تنعكس عليه أشعة الشمس من الشرق كل صباح. من خلال هذا الزجاج، فتحت عيني على سحر الألوان، لأول مرة في الحياة.
في ليلة شتوية باردة، أيقظتني جدتي. داعبت جبيني بأنامل الفلاحين الخشنة وهي تقول: "قوم يا ستي." كنت أجهل ما حملها على إيقاظي في تلك الساعة من الليل. قادتني من يدها اليسرى، وحملت مصباح (كاز) باليد الأخرى. انتعلت حذاء بلا جوارب. لم أسأل ولم أعترض، بل استسلمت لها في دعة واطمئنان ولم أصح تماما من النوم. لم تخبرني إلى أين. لكنني توقعت بإدراك الأطفال أن مفاجأة ما بانتظاري.
لفحني هواء بارد وهي تفتح باب الدار، وبهرني منظر الثلج المضيء، غشيت عيناي من اللون الأبيض ينتشر في كل مكان. لم أكن أتوقع ثلجا تلك الليلة، فالطقس كان صحوا عندما أوينا باكرا إلى النوم. ما حدث كان أمرا رائعا لكنه لم يكن المفاجأة، المفاجأة في مكان آخر.
في الخارج، الدرج هو الطريق الوحيد المؤدي إلى الباحة. هبطنا بحذر شديد، وقدماي تغوصان في الثلج حتى الكاحل، والمصباح يعكس بنوره ظلين عملاقين على ثلج الباحة تحت.
بلغنا الدرجة الأخيرة، توجهت جدتي صوب باب الحظيرة، وأنا أخب في الثلج، لا أكاد أنتزع قدما، حتى تتعرقل الأخرى.
فتحت باب الحظيرة، يتقدمنا نور المصباح، أحسست بدفء أنفاس المواشي، وطالعتني المفاجأة! كم هو رائع ومدهش أن تبصر جمال الأشياء والألوان، أو تتذوق حلاوة الطعم للمرة الأولى. كم هو رائع ومؤثر إحساسك بالشفقة وأنت ترى حملا أبيض ولد للتو عندما ترى الواقعة تحدث للمرة الأولى. الكل بلا ريب أتيحت له فرصة مماثله ولو اختلفت المطارح والأسباب.
تجاوزت سن الشباب، وما زلت أجهل حتى الساعة، ما الذي أوحى لجدتي أن النعجة كانت تضع مولودها في تلك الساعة من الليل.
حمل أبيض بياض الثلج في الخارج، التبس الأمر على الطفل، أيهما أشد بياضا؟ كانت النعجة منكبة على تنظيفه، وكان الحمل ضعيفا، عاجزا، يرتجف وهو يحاول النهوض فتخونه قوائمه ويسقط، ثم يحاول من جديد، قوة خفية تشده ناحية أمه في كل مرة، والنعجة مستكينة هادئة كأن الولادة أضنتها كثيرا، ولعل في نظرتها ما يشي بألم مكتوم أو إحساس من نوع مختلف لا يعلم ماهيته إلا الله.
أسعفت جدتي الحمل ليحظى بضرع أمه، ولو لم تفعل لوجده بلا معين، تلك غريزة المخلوقات، من تلقائها تهتدي إلى أثداء الأمهات.
اطمأنت جدتي على سلامة النعجة والحمل، وعدنا في نفس الطريق إلى نوم غاب عن عيني، وعندما صاح الديك إيذانا بانقضاء الليل، قامت فتوضأت وصلت واستغفرت ربها، وتوسلت إليه بحرارة المؤمن أن يعود الرحمن إلى قلب أبي ويعيده إلى رشده وأهله.
فيما تلا من أيام، كنت أوزع وقتي بين المواظبة على الذهاب إلى المدرسة، التي خلفها أبي لمدرس آخر، وبين العناية بالحمل الذي قالت جدتي إنه لي. ذلك الكائن الوديع كان يتبعني أنى مضيت، ولو تركت له الحرية لرافقني إلى مدرستي، إن عدوت عدا خلفي، وإن توقفت فجأة جاراني، ثم حرضني على متابعة العدو، بدفعة لطيفة على مؤخرتي من قرنيه الصغيرين.
كان يرافقني على درب الكروم في المساءات وفي صباحات العطل، فأطعمه ورق الكرمة وحب عرانيس الذرة، وأغسل صوفه من وقت لآخر. وعرف من تلقائه وربما بالغريزة كيف ينفض الماء عن جسمه، كما الفلح يهز غرباله في آخر حبوب يزيل منها الحصى والتراب، فتطالني النقاط المتناثرة وتبللني. تآلفنا وغدونا صديقين، يفهم ويشتاق الواحد منا الآخر. هكذا مضت بنا أيامنا.
تعيس وبائس في طفولته، بل في العمر كله، من لم يكن له جدة كجدتي، من لم ير حملا أبيض ولد للتو، من لم يرقص قلبه فرحا بالثلج المضيء، يزورنا مرة أو أكثر في كل عام، فينتشر في كل مكان، في السهول وعلى الجبال، في الباحات وعلى السطوح والأشجار، ما يدفع بكثير من الطيور إلى البيوت تلتجئ إليها بحثا عن الأمان في الدفء والقوت، وبحثا عن أطفال تهزهم إلى الأبد هذه الذكريات فتترسخ في قلوبهم وفي عقولهم.
لست أدري بعد هذا العمر كله ما الذي يحملني أن أستحضر السيد المسيح إلى تلك الليلة. تلك الليلة لم يظهر فيها المسيح، لكنها ليلة مشهودة، بل ليلة مباركة في حياتي.
توالت الأيام، واستجاب الرحمن لدعاء جدتي، وعاد إلى قلب أبي فأعاده مهزوما صاغرا إلى أمي، أمي التي انتظرته وسامحته راضية بظلمه، وغدا الحمل الأبيض خروفا سمينا صالحا للذبح، سفحنا دمه وتقاسمنا لحمه، بعدما قاسمناه حليب أمه.
وتعاقبت الأحداث، كبرت وسافرت وتعلمت. مات الجميع: جدي وجدتي، أمي وأبي، وما زال البيت إياه قائما حتى الساعة يهزأ بالزمن، وغدا كل إسمنت العالم وخرسانته المسلحة عاجزة أن تحمل إلى نفسي الأمان.
تزوجت ورزقت أطفالا حرصت عليهم، كما حرصت على زوجتي، وفي خاطري ما حييت فيض من الوداعة والحنين إلى جدتي، نجمتي المضيئة في الأفق المظلم، التي ووسمت أيامي بالثلج والحمل الأبيض والليلة المباركة. تلك الليلة غاب عنها السيد المسيح، ولكنها مشهودة بين الليالي.
◄ إبراهيم يوسف
▼ موضوعاتي