عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

ربـا الـنــاصـر - الأردن

ذكريات من رمال


مع إشراقة صباح ذلك اليوم، كنت قد أنهيت كتابتي لرسالتي الطويلة، وضعتها في المغلف وألصقت عليها طابع البريد. كان ذلك وسط صباح بدا جميلا في ظل وجود العصافير المتجمعة على شرفة نافذتي، حيث تتناول فتات الخبز الجاف الذي أضعه لها كل يوم، فهي تتناول إفطارها التقشفي هذا في سعادة غامرة. في المقابل أتناول أنا إفطاري وسط تذمر زوجي وانزعاجه من تكرار أصناف الطعام على مائدة الإفطار، لكنه رغم تذمره إلا أنه يبقى همسا دافئا في حياتي.

كان ينظر في ساعته من الحين للآخر خشية أن يتأخر على عمله، فيودعني سامي على عجلة من أمره. وقبل أن يخرج من باب المطبخ، لفت انتباهه ظرف الرسالة الموضوعة على المنضدة فسألني:

"لمن هذه الرسالة؟"

فأجبته مسرعة: "إنها لأبي. لقد عثرت على عنوانه أخيرا من عدة جهات أكدت لي تواجده هناك."

نظر إلي سامي في استغراب ثم سأل:

"لماذا لا تذهبين إلى زيارته في بيته وتخففين عناء كتابة الرسالة وانتظار الرد عليها؟"

لم أرد الإجابة عن أسئلته، فهو لا يعلم شعور غياب الأب لفترة طويلة عن ابنة مرت وحدها بجميع مراحل حياتها دون أن يكون له جزء فيها سوى ذكريات عابرة ومؤثرة.

تركني زوجي بعدها دون أن يعلم سبب كتابة رسالة قد لا تضفي عليّ سوى الحسرة. لكنني على العكس تماما، فأنا أنتظر قدوم ساعي البريد الذي يمر كل صباح بالقرب من بيتي حتى أعطيه رسالتي لأنتظر الرد وكلي أمل وتفاؤل.

انتظرت في المطبخ وقتا طويلا حتى أشارت عقارب الساعة إلى الثامنة صباحا، عندها فتحت الباب بسرعة وانتظرته على حافة الطريق. كان قادما من بعيدا، يركب دراجته الهوائية. اقترب مني شيئا فشيئا حتى وقف أمامي بإشارة من إصبعي، فناولته الرسالة، فأخذها ووجهه يفتر بابتسامة دافئة، ومضى بدراجته يركبها كنسر محلق في السماء عاليا. أردت منه في قرار نفسي أن يأتيني بغنيمة، ألا وهي رسالة بخط والدي.

ذهبت بعدها إلى عملي، وقد نظرت للأشياء المحيطة بي نظرة مختلفة يتخللها الكثير من التفاؤل، فبمجرد دخولي بوابة الجامعة كان شجر الصنوبر يتحرك بفعل تأثير الرياح، فبدا لي وكأنه رجل ينحني ترحيبا بقدومي. وأما العصافير فكان تغريدها أشبه بمعزوفات فريدة أعدت خصيصا لاستقبالي.

شعرت للحظات بسعادة عكست على تصرفاتي التي بدت طفولية، خاصة عندما مشيت في ممرات الجامعة قاصدة المدرج الغربي. كنت أمشي فيها على أطراف أصابعي كطفل سعيد بقطعة حلوى حظي بها. كنت أحس بتفاؤل هادئ صوب هذه الرسالة، متخيلة لحظة قراءة أبي لسطورها، فهل ستهتز مشاعره ويذرف دموع الفرحة؟ ترى هل سيشم عطري المرشوش على ورقها ويستذكر معه رائحة نسيم البحر وقتما كنا عائلة واحدة نتمشى عليه كل ليلة؟ هل سيشعر بالندم لتركه ابنة لم تتجاوز العاشرة من عمرها ويمضي مسافرا لبلد آخر هربا من ضيق التفاهم مع زوجته؟ ترى هل سيدرك كم تمنيت الشعور بعناقه لي عند شعوري بالخوف؟

هذا ما أتمنى وأتفاءل، تاركة الأيام تأتني بالجواب المرتقب ويحدث اللقاء الأول بيننا، فأراه رجلا في قرابة الستين من العمر لكن ملامح وجهه توحي أنه أكبر من ذلك بكثير. ينظر إلي بعينين حائرتين وقلب خافق باللهفة. أشعر بدفء يديه وهو يسلم علي، وأراقب عينيه المتراقصتين تحاولان رصد ملامحي فأجد في سوادهما وجهي بأكمله، كأنهما آلة تصوير التقطت وجهي كصورة تذكارية.

ومضت الأيام بطيئة الإيقاع، يسودها الانتظار دون ورود أي جديد، حتى مضى أسبوع كنت فيه من فرط التوتر كفراشة مس جنبيها اللهب، لا أعرف الاستقرار على حال، حتى أتى صباح ذلك اليوم. رأيت ساعي البريد من بعيد بردائه الرمادي وعجلته السوداء. وقف بالقرب مني وقال:

"دكتورة منى هذه الرسالة لك."

شكرته وفتحت ظرف الرسالة بجنون. ثم قرأت سطورها:

عزيزتي منى،

لقد تلقيت رسالتك على هذا العنوان، وقد تأثرت كثيرا بكل حرف خطت به هذه الرسالة التي تعكس صفاء قلب فتاة أفخر أن أعدها ابنة لي. أشعر عزيزتي بك وبمدى معاناتك التي قد يكون للقدر أياد بها.

عزيزتي،

لا أعرف ماذا أقول، لكنني في الواقع مجبر أن أبوح لك عن حقيقة قد تكون صادمة بعض الشيء، فرسالتك قد وصلت بالفعل إلى بيت كان يسكن فيه والدك، لكنها لم تصل إليه بل إلى شخص آخر يفخر أن يكون الأب والأخ لك، فوالدك كان يعيش في هذه الشقة قبل أن أسكنها. وما أكد لي ذلك الرسائل التي تأتي باسمه هنا، ولا أعرف عنوانا أحولها إليه.

فكرت مليا قبل الكتابة لك، بل فكرت في انتحال شخصية والدك والكتابة لك. لكني تراجعت في آخر لحظة. لا أعرف كيف أعتذر منك وأنا أعلم أن رسالتي هذه، قد أشعلت نار الحسرة في قلبك. ولكن كوني على ثقة في أن قلبي مفتوح لاحتواء همومك وأذناي صاغيتان لسماع ما تفكرين به."

المخلص

عمر

وضعت الرسالة جانبا وفكرت في شيء واحد وقتها: فكرت في قسوة قلب إنسان نزعت منه غريزة الأبوة. فكرت في برود مشاعره تجاهي. لا أدري هل الخلل من رقة مشاعري الزائدة أم من تلاهي الأيام ومغرياتها التي جعلتني أصطدم بمحتوى الرسالة؟

ذهبت بعدها إلى الجامعة. وفي طريق العودة كان وقت الغروب قد أتى. كان الظلام يتمطى في مشيته. حتى القمر ظهر متثائبا. استرجعت في حينها كل حرف ورد في رسالة السيد عمر، هل أعامله كأب بديل لي أم أعود للبحث عن عنوان والدي؟ قررت بعد طول تفكير أن أزاول حياتي من جديد كأن شيئا لم يكن.

وفعلا عدت يومها إلى البيت وتناولت العشاء مع سامي في هدوء، ثم قرأت بعدها فصلا كاملا من رواية. بعدها ذهبت إلى سريري. استلقيت عليه وأغمضت عيني، وقد حاولت تناسي أحداث اليوم ووقعها الصعب علي، وقد تطلب مني هذا الكثير من الوقت حتى أهدأ. بعدها أخذت نفسا عميقا وخلدت للنوم لأبدأ يوما جديدا مع أسرتي المحبة للحياة، ولتصبح ذكرياتي مع أبي مجرد ذكريات من رمال.

D 1 أيلول (سبتمبر) 2008     A ربا الناصر     C 0 تعليقات