عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

ربا الناصر - الأردن

انتظار


ربا الناصرارتشفت بعض القهوة من فنجاني وقد سيطر عليّ الملل الشديد وأنا جالسة على المقعد المقابل لآلة البيانو الذي تعزف عليه ابنتي، فقد كنت أحضر درسها اليومي في معهد الموسيقى الواقع في إحدى ضواحي عمان المترفة. أجلس في كل مساء متأملة أناقة ثياب السيدات في المعهد مقارنة أسعارها بأسعار ثيابي التي تعكس الطبقة المتوسطة التي أنحدر منها.

ففي الواقع بعد حصول ابنتي على منحة دراسية في هذا المعهد، اضطرتني الظروف أن أرافقها في دروسها، فأجلس على مقعدي كمسامير دكت في الأرض، أتابع معها دروسها مستمعة لملاحظات معلميها على عزفها التي حفظت بعضا منها، بل صرت أرددها.

وبعد انتهاء الدرس أعود إلى بيتي أقضي فيه بقية يومي حتى بداية يوم جديد. لكن اليوم بدا لي الأمر رتيبا، فاليوم تعلمت ابنتي مقطعا موسيقيا جديدا. كان وصلة موسيقية لمقطع سابق عاودت عزفه في ظل تسلل الملل إلى نفسي، مثيرا في عقلي الرغبة في التمرد على حياتي العادية جدا والمفتقرة إلى الأحداث والحلم بحياة مترفة تغدق عليّ بالسعادة والغنى. لذا فكرت في مغادرة قاعة الدرس والمشي قليلا أمام المعهد ريثما تنهي ابنتي حصتها.

كنت أمشي في بادئ الأمر خطوات غير منتظمة، ما لبثت حتى استقرت مشيتي، مزيلة من بعدها الغبار عن أحداث سكنت ماضي حياتي الذي أتناساه، بل أنزع عباءته العتيقة عن فكري، فكم من الأشخاص الذين تقدموا لخطبتي في ذلك الزمن رفضتهم بسبب عدم ارتقاء أي منهم للمثل العليا التي وضعتها في مواصفات فارس أحلامي، على الرغم من وضعهم المادي المريح.

ألن يكون وضعي الآن مختلفا لولا حماقة فتاة بحثت عن الحب والأخلاق السامية دون الاكتراث بالمال؟ كنت أفكر في إجابة لسؤالي في شرود، خرجت منه إثر سماعي لصوت ينادي اسمي:

"رند. رند. ألست رند يوسف؟"

نظرت تجاه صاحبة الصوت متأملة وجهها قبل أن أرد عليها في دهشة بعد أن تذكرتها:

"يا الله! أحقا ما أرى؟ صديقتي ليلى تقف أمامي بعد غياب دام سنينا."

تقدمت نحوها وسلمت عليها بحرارة سنين الغياب، ثم جلسنا على مقعد، وتجاذبنا أطراف الحديث في شوق وفضول لمعرفة أخبار كل واحدة منا. بادرتني بالسؤال عن حياتي، وعما آلت إليه الآن، فأجبتها ببساطة:

"أعيش حياة عادية مع أسرتي الصغيرة المكونة من زوجي الذي يعمل موظفا حكوميا وابنتين في بدايات العشرين من العمر. نعيش في بيت صغير جمع أحلامنا التي صغرت معه فاقتصرت في النهاية على الحلم بشراء مقتنيات لبيتنا أو الحلم في تمضية نهاية كل شهر دون عجز في ميزانية الإنفاق وسط تذمر من زوجي وإلحاحات من ابنتي. هذه كل حياتي. حياة مجردة من التغيير، أقضيها مع زوج لولا عيبه المادي لكان زوجا كاملا، لكن حكمة الله اقتضت العيش معه في حياة عادية"

"بل تقصدين حياة بسيطة ومجردة من التكاليف الزائفة." قالت صديقتي ليلى التي تحمست كثيرا للحديث عن هذا الموضوع، ثم أكملت: "أتعلمين يا رند أنك تعيشين حياة هنيئة، لا يتخللها النفاق والمظاهر الكاذبة التي أعيشها أنا الآن؟ لقد تزوجت رجلا غنيا تعرفت عليه من خلال أحد الأقارب في إحدى الحفلات العائلية، ثم تقدم لخطبتي من عائلتي التي لم تجد سببا مقنعا في رفضه، خاصة وأنت تعلمين أنني أنحدر من طبقة أقل من متوسطة، فكان زواجي بمثابة صياغة جديدة لحياة لم أكن أحلم بها إلا عندما أخلد للنوم."

ثم أكملت ليلى: "لكن وبعد سنين من الزواج، انخرطت في تقاليد مجتمع مخملي كما يحلو لبعض الناس تسميته. ثم بدأت حقائق كثيرة تتكشف أمامي، بل صار الأمر رتيبا لا يتعدى سوى المجاملات والكذب في بعض الأمور، فكم أتوق لحياتي القديمة التي قضيتها في بيت الأسرة القديم. كم أشعر بقيمة أثاث غرفتي الذي هلك لكنه يجمع أجمل الذكريات. كم أتوق يا ليلى إلى المشي على شوارع الحارة القديمة المتسخة، أمشي عليها بحرية دون خوف من تصرف يفسد وضعا اجتماعيا مصطنعا. صدقيني يا ليلى أنت في جنات النعيم."

نظرت إلى صديقتي ولم أعرف بما أجيبها، محاولة ترتيب الكلمات، لكني عجزت عن صياغتها، فاكتفيت بالنظر إلى ساعتي التي أشارت إلى تمام الثامنة مساء، أي موعد انتهاء درس ابنتي الموسيقي، لكني نظرت مجددا إلى ليلى وسألتها: "هل من الممكن أن نجدد صداقتنا مرة أخرى؟ هناك أمور كثيرة أريد اطلاعك عليها."

رسمت ليلى ابتسامة صغيرة على شفتيها ثم أجابت بتلقائيتها: "بلا شك يا عزيزتي، وأنا أيضا يدور في مخيلتي الكثير من المواضيع التي أحب مناقشتها معك. لذا سيكون بيننا لقاء، أليس كذلك؟"

"نعم سيكون هناك لقاء بيننا." أجبتها وأنا أهم بالوقوف مودعة إياها بعد عزمها على اللحاق بموعد مهم تخشى التأخر عليه، ثم بقيت وحدي بضع دقائق قبل أن أشعر بقبلة ابنتي على وجنتي بعد أن أنهت درسها. بعدها مضينا سوية، نمشي في مساء سماؤه صافية، لكنّ ثمة أفكارا علت فيه ينبغي على الأيام ترتيب أحداثها في مخيلتي.

D 1 كانون الأول (ديسمبر) 2008     A ربا الناصر     C 0 تعليقات