أميمة أحمد - الجزائر
من دفاتر المنفى: سقوط الوهم
بدأ الطنين يخترق أذنها التي وضعت عليها سماعة الهاتف. لم تعد قادرة على استيعاب ما تسمعه من محسن. يأتي صوته الأجش مرتفعا حينا، ومنخفضا حينا آخر حسب حماسه في حديثه مع آخرين نافش معهم أفكاره الجديدة لمجتمع خال من الحروب والجوع والتلوث والصراعات والفقر، وغيرها من أزمات تجتاح عالم اليوم. يعتقد أن أفكاره ستصنع مجتمعا مختلف بثقافته الراهنة.
"عفوا محسن، تعبت. تصبح على خير."
دون أدنى اعتراض أجابها: "حاضر حبيبتي."
أغلقت بايا الهاتف والطنين أصبح دويا. أمسكت رأسها بين كفيها وراحت تدلك صدغيها على أمل أن يخف احتقان أو توتر أعصابها. شعرت بايا أن أعصاب رأسها تجمعت حزمة واحدة وكأن يدا تشدها بقوة. فكرت بايا وهي ما زالت تدلك صدغيها:
ما الذي جعل محسن يتغير إلى هذا الحد؟ أصبح دعيا فوق الاحتمال. وكأنه وحده يمتلك الحقيقة. يقول دون أن يرف جفنه أنه وجد تعريفا بسيطا للإرهاب من ثلاث كلمات وليست هناك حاجة لمؤتمرات دولية لتحديد معنى الإرهاب.
عندما سألته بايا بفضول كيف يعّرف الإرهاب وقد أصبح ذريعة دولية لتلك الحرب الكونية الدائرة منذ بداية القرن الحالي، ضحك بشيء من الغرور اللافت وقال: "إن تعريف الإرهاب هو: الأقوى أكثر إرهابا."
راح محسن يشرح هذه العبارة (النظرية) بأمثلة من حيوانات الغابة إلى دول العصر، مرورا بحضارات آفلة منذ عصور. ورفع صوته عبر أسلاك الهاتف، فشعرت بايا أن أذنها ثقبت، فأبعدت السماعة قليلا. كان يقول لحظتها:
"للأسد أنياب تمزق أي حيوان في الغابة. فالأسد هنا بقوته يرهب الأضعف منه ويأكله. فهو إرهابي."
وتوقف لحظة ثم غّير المثال:
"الأرنب له أظافر، ولكن الذئب أقوى منه فلا تقاوم أظافره قوة الذئب، فالذئب إرهابي. وقيسي على ذلك. أميركا الأقوى في العالم، ترهب الأضعف فتغزوه وتحتله، بمعنى من يمتلك القوة يمتلك القدرة على إرهاب الغير."
أرادت بايا الخروج من تسطيح التفسير إلى شيء من الدعابة. فسألته بخبث وهي تعلم أن المكالمة مراقبة ورئيس بلده على اسم الأسد:
"كان مثل الأسد أكثر بلاغة لتشبيهه بأميركا، فلماذا غيرت للذئب والأرنب؟"
تجاهل سؤالها وتابع شرحه الإرهاب. حاولت بايا عدة مرات التدخل لمناقشته بفكرته عن الأقوى والإرهاب، والحروب غير المتكافئة سواء بجيوشها أو حركات وطنية تحررية وما يجري فيها من فظائع ضد الإنسانية تحت مسميات مختلفة ولم تكن تسمى إرهابا، بل نضالا وكفاحا. باءت محاولاتها بالفشل لأن محسن من جيل الحزب القائد واحتكار الحقيقة، فلا يحسن الإصغاء. باختصار، كان أشبه بقطار سريع ليس في طريقه محطات.
تساءلت بايا: أيعقل أن من لا يجيد الإصغاء يمكن له أن يفكر أو يكون قادرا على فهم رأي الآخر؟ واندهشت أكثر عندما تذكرت أن محسن كان واحدا من قيادة البلد. ترى كيف كان يناقش الناس؟ أم كان يفكر عنهم عبر نظرية الحزب القائد؟ لا شك أنها عقلية المرحلة الشمولية التي لا زالت سائدة في بلده. يعتقد المسئول أنه "القائد" المعصوم عن الخطأ، ويعرف مطالب الشعب أكثر مما يعرفون أنفسهم.
جفلت بايا على صوت محسن وقد ارتفعت شدته أكثر. كان يتحدث عن قوة العرب في مواجهة أمريكا. سألته بايا: "متى كان ذلك؟" فقال لها: "الآن في فلسطين والعراق ولبنان." استغربت كيف يمتطي الأحلام، فسألته باندهاش:
"هل تعني ما تقول محسن؟ ألا ترى التقسيم الجديد بالعراق؟ والخرائط الأخرى لبلدان عربية أخرى سيحين وقتها تباعا. أرجوك لا تفرط في تفاؤلك. أصلا لم نصل إلى ما نحن فيه إلا بصنع انتصارات وهمية. هزيمة 1967 سميت نكسة. وحرب 1973 التي توسعت فيها الأراضي المحتلة سميت نصر تشرين. أما آن الأوان لتقال الحقيقة؟ هل قولك فشلت أمريكا بالعراق يخفي حقيقة تقسيم العراق؟ وسينهي موت أهل غزة بحصار غير إنساني ووحشي؟ وسيعيد بناء لبنان المدمر؟ لا شك في أن خروج أميركا حتمي من العراق بعدما أنهت مهمتها بامتياز، ولكن لن يكون بعد سنتين كما جاء في الاتفاقية الأمنية بل بعد عشر سنوات أو عشرين. الأسوأ الآن هو تفتيت العراق وإنعاش العصبيات في بلد كان بلدا واحدا. أي نصر هذا؟"
قالت بايا ذلك بصعوبة بالغة لأنه كان يقاطعها المرة تلو المرة وهي تقول له: "اسمح لي فقط أكمل الفكرة."
شعرت بايا الضجر فحاولت تغيير الحديث فسألته:
"أتعرف يا محسن أن اليوم يصادف الذكرى الستين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان؟"
كأنه صدم من هذا التحول في الحديث الذي استهواه وهو يوضح فشل الحرب الأمريكية.
أجاب: "آ، صحيح والله. اليوم العالمي لحقوق الإنسان. نرجع لحديثنا بالنسبة لأميركا ..."
قاطعته بايا: "دعني من أميريكان، وقل لي: كيف كنتم كقيادة تتعاملون مع التعذيب في السجون، وإرهاب الآخرين من التيارات السياسية المختلفة عنكم؟"
ضحك وكأن السؤال هدية جاءت في عيد ميلاده:
"لم نسكت عن أي تجاوزات. كنا نحقق. ولكن إذا أهل المعني يتراجعون عن متابعة التحقيق فليس لنا حيلة إزاء متابعته."
قالت بايا: "الحق الشخصي قد يسقط بتراجع أصحاب القضية، ولكن أليس مهما معرفة الأسباب التي جعلتهم يتراجعون؟ تراجعهم بحد ذاته يحتاج لتحر، فقد يكون تهديد وراء تراجعهم عن حقهم في معرفة الحقيقة. ولكن لو اتفقنا أن الحق الشخصي يسقط بتراجع المدعي، ماذا عن الحق العام في معرفة الجاني الذي ارتكب جريمة قتل لسجين أو معارض؟"
رد محسن بحماس أشد، مدافعا عن مرحلة كان في قيادتها.
"كنا نحقق، ونعاقب، ونفصل من الحزب إذا ثبتت تجاوزات ما ..."
تركته بايا يبرر أفعال القمع. شيئا فشيئا راحت أقنعة محسن تتساقط، الواحد بعد الآخر: سقطت أقنعة داعية حقوق الإنسان، ومناهضة العنف ضد المرأة، والحرية، والعدالة، والثورة، وأقنعة أخرى. عندئذ قررت بايا أن تنهي المحادثة الهاتفية. اليوم سقط الوهم، وعرفت بايا محسن الذي اختبأ خلف أقنعة براقة.
لماذا تكذبين يا بايا؟ أنت كنت مندهشة به، مبهورة. بل شعرت بالتميز لأنك تتحدثين مع "قيادي سابق." كنت كما في القول: "وعين الرضا عن كل عيب كليلة" لأنك أحببته. والغريب في هذا الحب أنك لم تره يوما ولم تعرفيه من قبل. على أي أسس أحببته؟ رجع صدى السؤال في الأعماق وجاءت الكلمات:
المنفى سجن واسع. فراغ عاطفي. جليد اجتماعي. حنين للأهل والأصدقاء. ثم جاء هذا الصوت من الوطن.
أدركت بايا اليوم أن محسن لم يكن سوى وهم عاشته لتكسر جليد المنفى والاغتراب، وكتبته حبا لتتجاوز محنة صحية قاتلة. اخترعت حبا. أجل اخترعت الحب في المنفى. واليوم وهي لا تزال في منفاها تكتشف سقوط الوهم.
◄ أميمة أحمد
▼ موضوعاتي