عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

الصفحة الأخيرة - مقتطف من إصدار جديد

مقاييس رقي المجلات الثقافية


أدناه فصل من كتاب جديد عنوانه "المجلات الثقافية الرقمية: تجربة عود الند، 2006-2019". يناقش الفصل مسألة إصدار الأحكام على مدى رقي المجلات الثقافية. وشرح أن المسألة ليست مرتبطة بعصر النشر الرقمي، بل تم نقاشها في عصر المجلات الثقافية الورقية.

غلاف كتاب المجلات الثقافية الرقميةعندما ينشر موقع ثقافي نصوصا بأسلوب النسخ واللصق، وبالتالي تتضمن أخطاء إملائية ونحوية، لن يختلف اثنان على أن موقعا كهذا ليس موقعا ثقافيا راقيا، بل يشارك في تعميم الضعف في مستويات الكتابة، ويمنح الكاتبات والكتاب ثقة زائفة في مقدرتهم على الكتابة. ولكن إذا كانت هناك مواقع ومجلات ثقافية تطبق معايير جودة، كما تفعل «عود الند»، هل توجد عندئذ معايير موضوعية لاعتبار هذه المجلة راقية، وأخرى لا؟ هذه المسألة ليست جديدة. استفتت مجلة «الآداب» في العدد العاشر (1953) مجموعة من ذوي العلاقة بنشر المجلات عن ذلك. وهذه صيغة السؤال (ص 12):

«تعاني الصحف الأدبية في العالم العربي أزمة خانقة تتثمل في اضطرار كثير من المجلات الفكرية الراقية إلى الاحتجاب. فما هي الأسباب العميقة التي تعزون إليها هذه الأزمة[؟] وكيف تداوى؟»

شعار مجلة الآدابيلاحظ استخدام صفتي الأدبية والفكرية كما لو كانتا نعتا واحدا، بينما في الواقع تختلف المجلة الفكرية عن الأدبية. ولكن يبدو أن إطلاق صفة فكرية على مجلة أدبية كان متداولا، فمجلة «الآداب» كانت تصف نفسها منذ عددها الأول (1953) بأنها «مجلة شهرية تعنى بشؤون الفكر». ليس مستغربا من مجلة أدبية أن تنشر موضوعات فكرية، ولكن المجلة الفكرية تختلف عن الأدبية. الملاحظة الأخرى على موضوع الاستفتاء هي اقتصار السؤال على «المجلات الفكرية الراقية»، ما يوحي ضمنا بوجود مجلات فكرية غير راقية، وهذه لا تضطر إلى الاحتجاب.

نعود إلى موضوع هذا الفصل، وهو مقاييس رقي المجلات الثقافية. من ضمن الذين أجابوا عن السؤالين غالب طعمة فرمان الذي عزا أزمة الصحافة التي يتحدث عنها الاستفتاء إلى غياب الحرية في الدول العربية. ولكن رده لا يغفل الإشارة إلى المجلات «الفكرية الراقية» فيعلق على ذلك بقوله:

بقي لي أن أسأل: ما المقصود بالمجلات الفكرية الراقية؟ فالواقع أن هذه التسمية كليلى، كل قيس يزعم أنه صاحبها - وقيس هنا صاحب كل مجلة. فبعض المجلات تعتقد أن الثقافة الراقية هي تلك التي يستطيع أي كتاب أصفر أن يزودنا بها. وبعضها يظن الثقافة الراقية تمجيد كل أثر غربي مهما يكن نوعه واتجاهه. وبعضها يخال الثقافة الراقية الاشتراك في جدل بيزنطي حول موضوعات تكسرت أقلام الكتاب في بحثها والجدل فيها، كأن يجادل حول الثقافة العربية وأثرها في الغرب، وكأن تثبت علاقة الفنان بالمجتمع، أو كأن تبحث صلة الفن بالأخلاق، إلى غير ذلك. والواقع أن مثل هذه الموضوعات ما هي إلا معاول لتهديم أية مجلة أدبية مهما يكن حظها من جودة الطباعة وحسن الإخراج، فالقارئ لم تعد تثير في نفسه هذه الموضوعات أي دافع إلى القراءة إن لم تبعث السخط في نفسه (ص 16).

ولكي أعطي صورة أفضل عن الإجابات، سأورد رأي مشاركين آخرين في الاستفتاء. يقول عيسى الناعوري (الأردن) في رده (ص 14):

عيسى الناعوريإن القراء يذكرون كيف كان التهافت على مجلتي الرسالة والثقافة على أشده - قبل الحرب الأخيرة فقط [العالمية الثانية] - يوم لم يكن لأدب الكباريهات العاري وجود محسوس، فلما طغت على الأسواق الصحافة التجارية الملونة - أثناء الحرب وما بعدها - يبدو لي أن المعلم والمدرسة قد فقدا أثرهما في التوجيه الثقافي الصحيح، أو استسلما إلى تخدر الإحساس دون المسؤولية التهذيبية، وتركا الطالب يضيع بين معروضات المكاتب، ولم يعد ينصرف همهما إلى أكثر من تحفيظ الدروس المقررة في المنهاج لأن «الشهادة» في رأي أغلب الناس عندنا هي «الثقافة».

لاحظ/ي معي في المقتطف السابق تصنيفي أدب راق، وأدب كابريهات. لا أعرف نوع المجلات التي يتحدث عنها الناعوري التي تنشر أدب كابريهات، فلو كان يقصد مجلة تهتم بأخبار الفنانات والفنانين، فإن مجلة كهذه لا تعتبر أدبية، وما تنشر ليس أدبا.

وممن ردوا على سؤالي استفتاء «الآداب»، عبد اللطيف شرارة، الذي أشار إلى كيفية حل الأزمة (ص 13):

ولن يكون العلاج الشافي - كما يلوح لي - إلا حين يخرج ساسة العرب وحكامهم في شتى ديارهم وأقاليمهم، من كهوف مصالحهم الشخصية، ومنازعاتهم الإقليمية، وخصوماتهم العتيقة البالية، ليواجهوا العالم الحديث بفكر حديث يستهدف العدالة والحرية والكرامة الوطنية والسلامة الاجتماعية، ويسهموا بعد ذلك إسهاما صحيحا فعالا، في معالجة المشاكل الدولية، والقضايا الإنسانية، بحزم وجرأة.

يقترب شرارة من التشخيص السليم بإشارته إلى واقع لا يزال سائدا في الدول العربية. هناك سقف لمدى التطور الثقافي والفكري طالما بقيت الحرية في الدول العربية تعتبر خطرا على الحكام. ويتبين من المقتطفات أعلاه أن محتوى المجلات الثقافية ورقيها مسألة نقاش قديم. ويتسم قول فرمان بالدقة، فكل من يقف وراء إصدار مجلة ثقافية يعتبرها الأفضل، وقد لا يعترف بوجود غيره في الساحة.

بناء على ما سبق يتضح أنه عندما يتعلق الأمر بمجلات تطبق معايير جودة مثلما تفعل «عود الند»، يكون الحديث عن رقي محتوى مجلة أكثر من أخرى مسألة أحكام ذاتية وأذواق. وهذه مسألة نقاش قديم حدث على صفحات مجلة «الآداب». وفيما يلي مقتطفات من نقاش غير مباشر بين تيسير السبول وسلمى الخضراء الجيوسي حول ست عشرة قصيدة نشرتها «الآداب» في عددها الثاني (2/1959). جاء في تعليق السبول (ص 53) المنشور في العدد الثالث (3/1959):

تيسير السبول«قرأت نقد الشعر للشاعرة سلمى الخضراء الجيوسي في العدد الماضي [2/1959]، وقد علقت الناقدة على قصيدة الشاعر نزار قباني تعليقات تخرج عن مفهوم نقد الشعر المنشور بالمجلة. فلو كان العنوان «نزار قباني وعدوى أسلوبه الشعري» أو ما شابه ذلك، لما كان ثمة أي مجال لخط هذه السطور. لكنني بعد أن أعدت النظر وجدتني غير واهم قط، وأن الموضوع هو نقد القصائد. وهنا تساءلت: «ترى ألم يكن أحمد عبد المعطي حجازي حريا بأن يحظى بجزء من ستة عشر من الحديث عن القصائد؟».

في العدد الرابع (4/1959)، ردت سلمى الخضراء الجيوسي على ملاحظات السبول، ومما جاء في ردها (ص 65-68):

في عدد «الآداب» الأخير قرأت كلمة قصيرة للسيد تيسير السبول حول نقد الشعر. استغربت منها لأمرين: الأول أن السيد السبول يفترض أن لنقد الشعر في «الآداب» مفهوما مقننا متفقا عليه، والثاني أن ما كتبته أنا في هذا الباب في العدد الذي سبقه كان خارج هذا المفهوم.

وتواصل الجيوسي ردها المفصل على تعليق السبول، وتشرح له سبب ما فعلت:

سلمى الخضراء الجيوسي لا أريد أن يكون حديثي للسيد تيسير كله عبثا، بل على العكس، إنني أقدر حنانه وحماسه لقصيدتي أحمد [عبد المعطي] حجازي وخليل حاوي اللتين أهملتهما على رأيه، وقد وجدت نفسي مدفوعة بعوامل كثيرة لتفسير موقفي له - منها لأنني أقدر المتحمسين للشعر، ومنها لأنه يوم عتب عليّ لم يكن في كتابته لا متملقا ضعيفا ولا نزقا عنيفا، وكلا هاتين الصفتين تملآن نفسي برودا (ص 65).

وتوضح الجيوسي في ردها أنها لا تـنـقـد القصائد التي تعتبرها ضعيفة. هذا يعني أنها اعتبرت قصيدتين لشاعرين معروفين في عصرنا الحالي هما أحمد عبد المعطي حجازي (مصر) وخليل حاوي (لبنان)، ضعيفتين، وقررت ألا تنقدهما:

ولكن عندما يكون أمامي ست عشرة قصيدة، جلها غير محمس، فما حيلتي؟ أأنقد عددا منها وأهمل الباقي؟ أأنقد القصائد الضعيفة أيضا، وهذا ضد مبدأي؟ أم ماذا؟ لماذا لا أركز على نقاطها الإجمالية البارزة إذاً، من أخطاء عامة في الوزن في بعض القصائد، إلى فوضى في التعابير، وفوضى في المعاني[؟]

المقتطفات تشير إلى تباين الأذواق والأساليب، واختلاف في الرأي بين السبول والجيوسي على جودة القصائد التي نشرت في أحد الأعداد. على ضوء هذه الأمثلة، يجب ألا يستسهل أحد إصدار الأحكام على جودة ما ينشر في مجلة تطبق معايير جودة، مثلما تفعل «عود الند».

أما أسباب جذب مجلة كتابا أكثر من غيرها، فهذه مسألة نقاش أخرى. الكثير من الكاتبات والكتاب لهم أسباب شخصية تجعلهم يفضلون النشر في هذه المجلة وليس أخرى. لدى هؤلاء مكانة متخيلة لهذه المجلة أو تلك، تجعلهم يعتبرون النشر فيها له مردود أكبر لهم. ولا أتحدث هنا عن مردود مالي، فعندما تكافئ مجلة ماليا من تنشر له موضوعا، فإن سبب اختيار الكاتبات والكتاب لهذه المجلة واضح في هذه الحالة.

= = =

JPEG - 45.1 كيليبايت
غلاف كتاب المجلات الثقافية الرقمية
D 1 حزيران (يونيو) 2019     A عدلي الهواري: بحوث ومقالات وقصص     C 0 تعليقات