عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

إبراهيم يوسف - لبنان

"اتفرج يا سلام"


كان يأتي إلينا على بغلته بين الحين والآخر، لمداواة المرضى ومعالجة العقم، يقال إنّه قلّما فشل في تشخيص داء أو خاب له دواء. غالبا ما كان العلاج بالنار، ينسى معه المريض الوجع. فتيل من نسيج يحترق بطيئا على اللحم الحيّ؛ يذكّر بالثأر لله يوم الحساب، ومن أساليبه "الحجامة وكاسات الهوا"، بالإضافة إلى ختان الصبيان وتجبير الكسور.

كنت أحد ضحاياه عندما قرّر مداواتي بالكي فوق الخصيتين، بعدما لاحظتْ أمي فارقا في حجميهما، وهي تساعدني في الاستحمام على النهر. يومها لم أبك لأنني غبت عن الوعي، وعندما أفقت من الغيبوبة، لم أضع على نفسي فرصة البكاء، فبكيت، وأثر الكي ما زال شاهدا على ظلامتي حتى اليوم.

هذا "الطبيب" المغربي أعْجبته سعة العيش وكرم أهل الريف، والفراش الوثير ينام عليه في كلّ البيوت، وعلف كاف يقدّم لدّابته، فآثر البقاء في البلدة. باع البغلة واستقدم زوجته وابنته وعاشوا جميعا بيننا، وتجشّم مسؤولية المرضى في القرية والجوار.

كنت قد بلغت سنّ الرابعة عشرة عندما انتقلت من العيش في القرية، إلى مدرسة تكميليّة في إحدى مدن المحافظة، ودعوت إلى بلدتي صاحبة الدار: سيدة طيّبة في العقد الخامس من عمرها، بعد أن أقمت عندها وتوثقتْ بيننا أواصر المحبة والاحترام.

كنّا في بدايات العام الدراسي من أواخر تشرين الثاني (نوفمبر)، موسم ذبح العلوفة السنوي. تركت السيّدة المدعوّة مع أهلي، وكانت قد عرفتهم في مرّات سابقة، فاطمأنّت إليهم واطمأنوا إليها، ورحت مع صديق لي في عمري، نستنزف ما بقي أمامنا من أيّام الصحو القليلة. (هذا الصديق قتل بقذيفة عشوائيّة إبّان الحرب الأهلية في السبعينات مع الأسف الشديد، وتبوأ أحد أبنائه منصبا عاليا في الدولة).

في غفلة من أهلي أخرجنا مهْرا لنا من الزريبة، وقدناه بصعوبة بالغة بعيدا عن البيوت، قريبا من كروم المعصرة ولم يمض على قطافها وقت طويل. لم يكن المهر قد روّض بعد، ولم يكن أهلي قد اشتروا أو أعدوا له سرْجا للركوب، واختلفنا فيمن يكون الفارس الأوّل، ثمّ حسمت القرعة الجدل لمصلحتي.

لا أذكر تماما كيف تمكنت من ركوبه. ما لا أنساه أبدا أنني منذ اللحظات الأولى كنت في حالة من الهلع الشديد والمكابرة الكاذبة. تماسكت ما أمكنني وهو يعدو صعودا بجنون مخيف، حتّى بلغ بداية المنحدر إلى الوادي، حين بدأ يجتاز الجلالي بالقفز من واحد إلى آخر، بين أشجار اللوز والتين، عندما طرت عن ظهره بانعطاف جانبي، كطائرة تنقضّ على هدف. على مسافة أمتار اصطدمت بالأرض، ووقعت على مفصل اليد اليمنى، بين الكف والسّاعد.

عاد المهر من تلقائه إلى زريبته في المنزل، ولم أشعرْ مباشرة بالإصابة، لأنها كانتْ ما تزال ساخنة لا توجع. في اللحظات التالية تورّمتْ يدي، وبدأت أشعر بألم يزداد مع الوقت. بلغ ذروته حينما وصلنا إلى القرية، فانسحب صديقي متسلّلا إلى بيته، لينأى بنفسه عن لوم لا ذنب له فيه، وعدت إلى أهلي خائفا موجوعا، فلم يعفني ألمي من التأنيب في عزلة عن السيّدة المدعوّة.

هكذا أرسلني أهلي دون مواكبة من أحد، إلى "الطبيب" المغربي ليؤدي رسالته معي. بلغت منزله فلم أجد أحدا بداخله وقد قرعت بابه بإلحاح الموجوع، عندما أطلّت امرأة من الجيران، لتخبرني أنّ ابنة صاحب المنزل موجودة على السطح. ذلك الوقت كان آخر أوان نشر البرغل (*) على السطوح لتنشيفه تمهيدا لتخزينه، والفترة من السنة تحلو متعة الشمس فيها.

ارتقيت سلّما خشبيّا إلى السطح لأسْأل عن أبيها. كنت أحْسب درجاته القليلة تتصل بالسماء منْ شدّة ألمي.

هذه المرّة جسد امرأة ناضجة تجاوزت العشرين، منْه شمس تشرين تستمدّ دفأها. كانتْ نائمة. بطنها وصدرها على الأرض. خدّها الأيمن يتخذ وسادة من باطن كفّها، وقد انحسر رداؤها عن عجيزة كالإسوارة، وساقين سمراوين ممتلئتين ولامعتين، كأنهما من أبنوس يضجّ تحت شمس تشتهيه.

عصف المشهد بأعصابي وحواسي كلّها. نشف الرّيق في حلقي، وطار صوابي فطار معه وجعي، وألمّت بي أحوال شداد، فلم تعدْ رجلاي قادرتين على حملي، منْ فرط خوفي. ثمّ لم أدر بعدها كيف تمكّنت من الوصول إلى الأرض. مشهد مسْكر من هذا النّوع يحدث مرّة في العمر، ثمّ لا يتكرر، لكنه يوقظ آهة طويلة، يتردّد صداها مدى العمر، لهفة في الجسم والقلب وعلى اللسان.

راحت السكرة، وعاودني الوجع ليلا، ليلا طويلا كليل الصبابة. تفقّدتني الزائرة مرات، وعندما حلّ الصباح عادت بي إلى مدينتها، واصطحبتني إلى طبيب لا بغلة عنده، فعالجني من الرضوض والكدمات، وتولّت العناية بي حتّى شفيت، وحملت لها في حياتي حبا عظيما عوّضني عن كثير من إخفاقي وخساراتي.

= = =

"اتفرّجْ يا سلامْ، عالدّنيا يا سلامْ " نداء يطلقه صاحب ما كان يعرف قديما بصندوق الدنيا (صندوق عرض صور سبق عصر السينما).

(*) البرْغلْ: جريش خشن من الحنطة المسلوقة (تركيّة).

D 1 نيسان (أبريل) 2010     A إبراهيم يوسف     C 0 تعليقات