هدى الدهان - العراق
تحف وأنتيكات
مشى ببطء متلمسا هدي الطريق بإرشاد ضوء مصابيحها. يحاول بقوة قشة إنقاذ المكان من تلاطم الظلام. كان الغرض ألّا يجرح السكون في هذا البيت، أو ربما كان غرضه ألّا يتعثر بإحدى هذه التحف الكثيرة التي تزحم الزوايا والأركان فتسقط إحداها فيضطر إلى الاعتذار أو دفع ثمنها، وكلاهما ليس بالأمر الوارد عنده.
ترك نفسه لتأخذه لوحة وتصاحبه قطعة أثرية وتهمس له زهرة مجففة ويراقصه خلخال سومري إلى أن أعادته إلى أرض الواقع يداها وهي تمسك بكتفيه من الخلف فتوجهه إلى حيث يجلس حتى قبل أن تسلم عليه.
دوما كانت تحب القيادة في كل شيء والتحكم في الزوايا والأماكن والأشخاص. لم يلتفت حتى. استمتع بدفء اليدين واختصر مسافة الكلام بالطاعة. حين جلس فوق المقعد الخشبي خنقه سؤال قرأته في صمته وبابتسامة مديرة المدرسة لتلميذ أجابته:
«عيناك تترك سؤالا على كل قطعة في غرفتي. لماذا أحب اللوحات وقطع الحلي الأثرية والفخار القديم والخناجر العتيقة؟»
«لا، فهذا شأنك». (اعتاد دوما على ترك مسافة بينه وبين الآخرين حتى لا يحسوا بقيمتهم عنده فيستغلونها).
منذ كنتُ شابة بدأتُ بتجميع الحلي الفضية. أجدها معدنا أصدق من الذهب باختلاف عياراته وطرق طلي الحلي بمائه، بل وحتى من ماتوا بحثا وتنقيبا عنه.
الفضة ليست في رقبتها دم أحد. أعجبتُ في البداية بحلي الغجريات، فبدأت أجمعها. وكلما كبرت كلما نضجت. فرأيت الآخرين على حقيقتهم فلم أكلف نفسي عناء وجهد تنقيتهم ليستطيعوا العيش في حياتي ويستحقوا وقتي وروحي. فتركتهم في ضحالتهم. واستعضت بصحبة تلك الحُلي عمّن انفضوا عني لانتهاء هدفهم من العلاقة ومن أخذتهم ظروف الحياة لمكان آخر؛ ثم بدأت بتجميع بقية التحف.
التحف أصدق وأنقى من كثيرين حولنا. أغلفها بالظلام دوما حتى لا أجرح نقاءها. دوما الضوء يعري الأشياء من جمالها ومن سحرها. النهار قاسٍ وأشعته جارحه. الليل يهدهدك ويلملم جراحك، وأفضل مكان تختبئ في حضنه، فلا يَبينُ من وجهك شيء. لا دمعة، ولا أثر لعملية ترقيع وتجميل، ولا ابتسامة مكر تعكس صدق شماتتك بأحدهم.
الليل كباب مغلق ووجهك خلفه. الصبح يفتح هذا الباب للنسيم وللذباب. وليس لك أن تختار أحدهم دون الآخر ما دمت اخترت أن تقف في حديقة منزلك، أي أن تكون بين الآخرين.
لكن في هذه الغرف وهذه الأركان، أنا مع كل النقاء والعفة. ويوما ما حين احتاج مالا لمعيشتي في هذه الحياة، وحين أعجز عن العمل، فإن كل قطعة منهم حين تُباع توفر لي بثمنها كرامة الاستغناء عن الآخرين والعيش بمغارتي أطول مدة ممكن اقتناصها من الزمن.
حين أبكي يتلقف دموعي حضن كأسٍ فخاري؛ وحين أفرح يصفق لي دف قديم؛ وحين أغضب يهديني خنجر وعدا بالانتقام؛ وحين احتار تهديني لوحة زيتية كل الحلول الممكنة.
لم أجد كما من العطاء إلا في الأشياء المادية، عطاء بلا منة ولا شرط ولا مقابل. والأفضل أنه كلما احتفظت بها أكثر كلما زادت قيمتها وتهافت الناس عليها. يتزايدون بما جمعوه من أموال وهم يعملون ويعرون أنفسهم لضوء النهار.
الأشياء هي الوحيدة التي يتساوى الثمين منها والبخس. كلاهما لن يؤذيك. لا يمكن أن يؤلمك رسم زيتي، ولا تجادلك قلادة، ولا يجرحك كتاب، ولا تدينك تحفة، ولا تضرك بالتالي حفنة تراب أو قلم رصاص أو قشرة جوزة.
لماذا لا نستعيض عن الإنسان بالأشياء التي تسلي وحدته اليوم وتدر عليه مالا غدا؟ لماذا نظل نتحمل تفاهتهم ونفاقهم ولؤمهم أو نعتاد على عطاء من فيه خير فيهم، وحين يتركوننا فجأة نكون كطفل ضائع في سوق شعبي: كلما توغل في سوق الحياة أكثر، كلما علا صراخه وتاه أكثر.
* * *
قرر ألّا يجيب خوفا من شماتة تمثال فرعوني، وقهقهة غرامافون، ولقطة يراها في عين الكاميرا القديمة التي أمامه. هل بدأ فعلا يراها تتحضر لتلتقط لوجهه الخائف صورة تعزز بها نصرها عليه أم أنه فقط يتوهم والكاميرا التي أمامه مجرد حديد ينعكس عليه ضوء مصباح ذو لون أصفر كالحمى؟
ترك لها مغارتها وعالمها ولم يخبرها لماذا أتى. وحدها التحف هم من حولها الآن ببرودها تعرف. تعطيها حبا وحضورا يغنيها عن التصنع الذي يزيف به الآخرون وجودهم في حياتها.
خرج إلى الشارع يحس بالانكسار. هل لأن من هزمه هذه المرة واحتل وجودا في حياتها هو جماد لم ينطق بحرف ولم يتحرك من مكانه؟
رآها قبل أشهر في محل شرب القهوة الذي يملأ أركانه بكل قطعة قديمة استطاع صاحبه الحصول عليها وأكملها بالجدران التي امتلأت بورق الجرائد القديمة وصور الأبيض والأسود.
كان يظن أنها تأتي إلى هناك لتستمتع بالقهوة وبالمكان. حين طال غيابها وتباعدت زياراتها سأل عنها النادلة فأجابته إن السيدة لا تأتي إلا إذا كانت هناك صفقة، فصاحب هذا المحل لديه خبرة في شيئين: القهوة والتحف. وهو يستطيع تقديم القهوة وشراء التحف المقلدة. أما الأصل فكان يدلها عليها ويأتيها بها كلما عثر على قطعة لم يحلم أن يمتلك يوما نصف ثمنها. كان يفرح كلما اشترت قطعة دلها عليها وكأنه سيرث هذه السيدة يوما أو ربما إحساسه بأن القطع الثمينة يجب أن تكون في أيد ثمينة كيديها.
أحس بالضياع بعد هذا اللقاء. أراد أن يفضفض وأن يبتلع دموعه. اتصل بصديقه فأخبره أنه مع أولاده وسأله إن كان يحتاج شيئا يستلزم حضوره، فأخبره أن «لا». اتصل بأخته فشكت له من الجيران وزوجها والأولاد.
أحس انه وحيد في الحبس الانفرادي.
تحسس الخاتم. ما زال في مكانه. كان يملك هذه القطعة من الماس التي ورثها عن والده. خاتم تم بيعه في أحد المزادات بعد الحرب العالمية، فاقتناه والده بشغف وكأنه الناجي الوحيد. أخذه في جيبه اليوم لغرض غير البيع والشراء، أو ربما قرر شراء قلبها وعمرها بهـ فأتاه الرد بعشقها لذاتها واستغنائها عن الآخرين ومنهم هو.
لم تسأله كيف عرف عنوانها. وهل تكفي كلمات بسيطة يتبادلونها في مقهى كزبائن طاولات قريبة التقوا أكثر من مرة أن يطلبه من أحد؟ لم تسأله عن سبب مجيئه إلى منزلها. تُرى هل أخبرها ذاك الجرس الحديدي القديم لدير كنسي الذي يتصدر مدخل بيتها؟ هل أخبرها عن القادم إليها وسبب زيارته؟
أحس بالحرمان وبالوحدة، تصفح قائمة الأسماء في هاتفه فلم يجد من يستطيع أن يفضي له بما في نفسه دون أن يجد الأمر أقل من عادي أو لا يستحق الذكر.
لم يجد من ينصت له حقا لان للكل حياته التي تلهيه موسيقاها عن سماع موسيقى الآخرين التي ربما تنشز له حياته أو تحدث ثقلا عليها.
اخرج الخاتم من جيبه وفكر إن هو بكى فدمعته ستغسل تلك الماسة وتزيدها بريقا ثم تتلاشى فلا يعود الخاتم شاهدا على لحظة ضعف. أزاح اللجام عن روحه. سب وشتم ثم تغزل ووضحك. كل هذا والخاتم بيده عبد مطيع ما بين اعتصاره في لحظة غضب والتربيت عليه في لحظة شغف.
أعاد الخاتم إلى علبته الخشبية. ذهب إلى منزله. أخرج رزمة من الأوراق النقدية وتوجه إلى أقرب محل لبيع التحف.
- كوب قهوة وقرطان فضيان
◄ هدى الدهان
▼ موضوعاتي