نوزاد جعدان - سورية
وطن غير مطهّر
الوطن الذي اتقن صناعة المقصّات جيداً ولم يتأنّق ولم يسمع طرطقة أصابعنا وهي تقطع من ثوبه آخر خيط زائد، الذي كثيراً ما كنا نتسلى بسحبه ولفه على سبابتنا أمام خطب باعته الحادة، لم يعد يسمعنا.
أصابه طرش مفاجئ. ربما من قذائف الهاون التي أصمت آذان نصف أهل مدينتنا ولم يعد ينفع معنا سوى النباح؛ لذا تجدنا ننبح كثيرا، ليس ذنبنا ولكن بكل بساطة لأننا لم نعد نسمع.
هكذا ننبح على صفحات التواصل الاجتماعي. أمام هيئة الأمم المتحدة. أمام هذا العالم الأطرش، نباح، وفي أسمى حالاتنا زعيق طفل رضيع يبدأ ولا أحد يعيره اهتماما حتى ننام حتى لو مصَّ كل الحليب من نهد القمر الذي اختفى فجأة عن مدينتنا، و على الرغم من ذلك ونومنا في هذا الوطن ولكن لم نكن بمنزلة أهل الكهف.
صحيح أننا نمنا طويلا ولكننا حين استيقظنا، فتحنا عيوننا على جهنم، وطن قص فينا كل شيء؛ أي شيء تريده،
كانت حفلاته دائما شهيّة للسوّاح والغرباء حتى معالمه الأثرية نحن اللا مدعوون إليها، مع أننا كنا نأتيه بربطة عنق فخمة وبيدنا باقة ورد،
لا نعرف عدد قلاعه ولا طعم حفلاته الشهية لذا كنا نسأل السوّاح عنها الذين يعرفون أيضا أيضا أن الوطن فرح وأن بلادنا جميلة نحن الجاهلون عنها مع أن بيدنا باقة ورد وحذائنا ملمع.
وكما قلتُ لكم، نرتدي لأجله بدلة رسمية وعند كل قصر هناك وعند كل جدار من قلاعه التي يزورها السوّاح رائحة عرقنا
ولكن يا وطننا الحلو الحلو لماذا تجرّنا معصوبي العينين: نحن اللا مدعوون إلى أفراحك وبيدنا باقات الزهور إلى سجون قلاعك.
هكذا اكتظت كل السجون بالطرشان والعميان والخصيان والعلمانيين والمتأسلمين والشيوعيين والغجر والبدو.
أصبح لدينا كوكتيل في كل سجن وهذه السجون يضرب بها المثل باللحمة الوطنية، تلك اللحمة التي كنا نتذوقها في كل عام لمرة واحدة فقط، على عكس الحواري التي أصبح لكل حارة ملتها وطائفتها وديانتها، تقسيم محكم لأول مرة يحدث في وطننا على عكس تقسيم الثروة والمال والمناصب الذي لم يكن يوما دقيقا،
أصبح لدينا حارة للشيعة وأخرى للسنة وثالثة للمسيحين وهكذا. كثرت الحارات في وطننا، وفي ظل غياب خدمات البلدية كانت كل الطرق مغلقة لذا تقوقع كل أهل حارة في منطقتهم لا يخرج منها أحد.
ولكن حين أغشى الشوق بصيرة "جورج" لزيارة حبيبته رقية والمرور تحت شبّاكها في الحارة المسلمة، جهّز نفسه لكل السيناريوهات التي ربما تصادفه، حفظ الصلوات الخمس وارتدى دشداشة فضفاضة واسعة الأكمام وقصرها من أسفل وأطلق لحيته وأرخاها، وتعطّر بالمسك والعنبر ووضع سواكا في جيبه.
كانت نسمات رقية تسحبه وكأنها تجره من ياقته، أصاب جورج عمى الاشتياق وكأنه يسحب الشمس من ياقتها إلى غرفته، وعينا رقية الحلوتان الدائريتان أنستاه كل أختام المخالفات إذا مرّ من حارة ليست من ديانته، ويدا رقية التي كقطعة بسكويتٍ مدوّرة تلك التي يحبّها الأطفال أمسكت بيده وشدّته ليمر من هناك ويكتب بها قصة عشقه.
مساءً، راقب يد القمر المدوّرة كيدِ معلمة مدرسته، أمسك بها ومسح عن سبوّرة السماء كل هذا الليل ربما يجد طريقاً إلى رقية، حضّر نفسه لكل طارئ وبقيت مشكلة هويته المكتوب عليها مسيحي.
لم يجد حلا سوى أن يتذرع بأنه نسيها في البيت، من سيشك به وهو مدجج الآن بكل الأسلحة والحجج التي يعرفها أحسن من المسلمين أنفسهم،
انطلق في ليلة تطهرت العتمة من كل نجومها وقمرها، وهكذا نقية سوداء، مضى وهو يحمل كل النجوم في جيبه وقمرا في قلبه.
أراد أن يبدده أمام عتمة رقية، فلا يكفي السماء حزينة الليلة وهو حزين والوطن حزين، فعلى الأقل على رقية أن تخرج إلى الشرفة
ربما يفرح المذكورون أعلاه جميعا،
في طريقه رأى جثثا مرمية على جانب الطريق ربما بسبب صليب معلق في أرقابهم أو بسبب آية قرآنية محشورة في جيوبهم، لا يهم، الكل هنا في هذا الوطن ضحية والكل أيضا قاتل،
تساءل: ترى تلك الطلقات التي في مخازن البارود بماذا تحلم؟ وبماذا يحلم القتلة؟
في غمرة تساؤلاته، استوقفه الحرس عند مدخل الحارة، تفصد جورج عرقا وصوت وجيب قلبه يكاد يكون مسموعا:
= "ماذا تفعل في الحارة؟"
= "قدمت لزيارة قريب لي".
= "أعطني هويتك؟"
= "نسيتها في المنزل".
= "نعم! نسيتها؟ ألا تشاهد الأوضاع الآن؟" أمسكه من معصمه وأردف قائلا: "ما اسمك؟"
= "محمد".
= "محمد شو؟"
= "محمد الأحمد".
= "ما عدد الصلوات؟"
= خمس.
= "كم ركعة صلاة الظهر؟"
= "أربع".
= "وكم عدد سور القرآن؟ اقرأ سورة الفلق".
كانت إجابات جورج كلها صحيحة وينجح من اختبار إلى آخر.
= "لا أعلم لماذا أشك بك، سحنتك لا تبدو لي سحنة مسلم على الرغم من إطلاقك لذقنك، طيب والآن مع الاختبار الأخير وسنسمح لك بالعبور ولكن مرة أخرى لا تنس هويتك ربما تتعرض لشيء أسوأ".
= "حسنا سيدي تحت أمركم".
= "ارفعوا دشداشته".
= "لا يا سيدي. لماذا؟"
= "ارفعوها".
= "آه، ما الذي نراه؟ ترتدي "بوكسر"؟ يا لطيف".
= "أرخوا بوكسره".
وعندما أنزلوا ثيابه الداخلية وبان عضوه، تفاجأ الجميع، وسُمع صوت قائد الحارة من بعيد:
= "اقطعوا ..."
◄ نوزاد جعدان
▼ موضوعاتي
1 مشاركة منتدى
وطن غير مطهّر, هدى الدهان | 17 آذار (مارس) 2020 - 22:26 1
وطن غير مختون .ذكرتني قصتك بفحص الالمان لليهود في الحرب العالمية الثانية .حين يشكون باحد ادعى انه غير يهودي، يكشقون عورته للتأكد من انه مختون ام لا. الختان وقتها كان ذريعة للقتل وفي قصتك عدمه كان ذريعة لموت اقسى .تمر العقود و الاوطان لا تتطهر ولا بالف عضو يُقطع.