نوزاد جعدان - سورية
عندما يتوحّل سروال الزهور
لم أكن أدري أن كل هذا سيحدث معي، لو أني عرفتُ ذلك لانتهبت وأنا أمضي في طريقي، كان وقتاً يمزج النقيضين الحزن والفرح معاً من شيئين يحدثان بآن واحد معاً، عندما حدّقت بالبحر وهو يخلع قميصه كي تغسله السماء، أصبح ثوبه الأزرق الممزوج بالدواة ناصع البياض، أبيض جدا، حدّقت بتلك المغسلة العظيمة، التي بعد غسلها، نشرته على حبل غسيل النجوم و الذي بدوره ارتجف مراراً وغطى هذا الثوب العملاق وجهها وبدأ يهتز ويصدر صوتا مرعبا تماما كتلك الثياب التي تهتز على شرفة مظلمة، فكّرت حينها لماذا لا يطالب المطر بعملية كي طويلة لقميصه كي يفتح ذراعيه بشكل أوسع ، ويكون مطراً أنيقاً ومحترماً يروي كل تلك الحقول.
هذا المشهد جعلني منشغلاً بكل تلك التفاصيل وأنا أمضي في طريقي سريعا قبل أن ابتل بالمطر، فمنذ صغري وأنا أكره قطعان المظلات وبائعيها التي لا تناسب حارتنا الضيقة، ارتطم رأسي بعامود إنارة مكسور المصباح، شعرتُ برأسي ثقيلا جدا وثيابي موحلة و متربة جراء وقوعي على الأرض، خارت قواي وبصعوبة وقفت على قدمي، وقد تبللت من أخمصهما إلى رأسي والمياه تنز من ثيابي، قلّبت ناظري حول المكان بدا لي كأني أرى العالم عالمين، حين أغلق عيني اليمنى ألمح عامود الإنارة وحارتنا المتعبة بتفاصيلها ووحلها الذي لا ينشف وحين أهم بإغلاق عيني اليسرى لا أجد شيئا سوى التراب فقط حفنة تراب كبيرة متجمعة وهياكل عظمية تمر بجواري.
كان المنظر مرعبا جداً كما تلك الكوابيس التي نراها ونحن نتأرجح بين اليقظة والغفوة، رجعتُ إلى البيت مسرعا وأنا أغلق عيني اليمنى وأمضي، فتحت لي زوجتي الباب سألتني عمّا حدث لعيني ، وخالتها أني تعاركت مع أحدهم، جاوبتها أني بخير، جلستُ على الأريكة فاقتربت مني وأبعدتْ يدي عن عيني، ابتعدت عنها مذعورا لقد لمحت هيكلها العظمي وتلافيف دماغها، كان منظرا مرعبا هل هي نفسها زوجتي التي أحببتها، وخرجت من البيت مسرعاً، جلست على الرصيف أغلقت عيني اليسرى ونظرت إلى السماء كم هو قبيح منظر القمر لم أجد به سوى الرمال والظلام يحيط به، تمتمتُ مع نفسي من يشبّه بعد اليوم حبيبته بالقمر.
بحثت عن طبيب قريب ربما يجد حلاً لهذا الكوان الذي يحيط بي، كنت أسير كمجنون بين الطرقات أبتعد عن المارة، المارة الذين لم ألمح ثيابهم الفخمة بل هياكلهم العظمية وقعر السواد في أعينهم، أين تلك القزحيات الجميلة والتنانير القصيرة والثياب الزاهية، عند الطبيب وجدت ضآلتي فهناك الكثير من الهياكل العظمية التي تجعلني أبدو شخصا طبيعياً، قال لي الطبيب أن لا شيء بي وعيني اليمين طبيعية.
في طريق عودتي، زرت المقبرة القريبة من بيتنا، تجوّلت بين قبورها وأغلقت عيني اليسرى وبدأت أجول بناظري إلى داخلها، وجدت الموتى كما هم بأشكالهم الحقيقية كما تركونا بأثوابهم الجميلة وأسنانهم الحلوة، كنت أرى ما تحت الوحل، لم يفصلني التراب عن التراب، هناك حيث يبتسمون وروائح عطورهم تمتزج برائحة الطين، تفحّصت الأضرحة قبرا قبرا، نعم، منذ ذلك الوقت وأنا أقضي وقتي بينهم هناك وأحكي لهم عن عيني التي لا أرى فيها سواهم، وهم بكل هدوء يصغون إلى كل تفصيل دون أن يصيبهم ملل ، هكذا تحت سماء عمياء لا أجد فيها شيئاً، أحدّث الموتى الحلوين المبتسمين بأسنانهم اللامعة، وأعدهم أن أجمع مياه المطر المحترم بقادوس أنيق وأسقي قبورهم به كل يوم للموتى العطشى، فقط حين يلبس المطر قميصه الأبيض وأستعيدُ أزرار قميصي التي فقدتها وأنا أركض بين هذه المقابر.
- عود الند يافطة العدد الفصلي 8
◄ نوزاد جعدان
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ
1 مشاركة منتدى
عندما يتوحّل سروال الزهور, هدى الدهان | 3 آذار (مارس) 2018 - 13:00 1
روعة
هاأنت قد فتحت عينك الثالثة.عين روحك .فاصبحت ترى الاخرين على حقيقتهم .كثيرون حين يمرون بمحنة يرون جروحهم و هيكلهم العظمي .يرون قبحهم والمهم وخساراتهم .الموتى فقط هم من يتحررون من كل هذا ويبقون ناصعي البياض كالهيكل العظمي ويبقون بكامل زينتهم ليس لديهم مشاعر الملل التي لاتغادرنا لاننا لانغادر تفكيرنا بعبثية الكون .