عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

فنار عبد الغني - لبنان

عروس القدس: شيرين أبو عاقلة


فنار عبد الغنيكانت دوماً على مقربة منه، شاهدته خمسة وعشرين عاماً وهو يحصد الأرواح. لم يكن يفصلها عنه سوى موعد لاحق، موعد دقيق، لا يمكن لأحد تجاوزه، موعد محدد زمانه ومكانه سلفاً. وهي كانت قد تجاوزت مشاعر الخوف منذ قررت ترك دراسة الهندسة المعمارية وخوض الحياة الإعلامية حيث أيقنت أن توثيق الحقيقة من خلال الكلمة الصادقة والصورة المباشرة التي تعكس عمق الإحساس بالظلم والمعاناة والألم هو أيضا مقاومة.

أرادت أن تكون قريبة من أهلها وناسها وشعبها لتشاركهم نزيف عقود من الآلام اليومية المتواصلة، ولتوصل أصوات معاناتهم إلى العالم. كانت تخرج كل يوم من بيتها في بيت حنينا في مدينة القدس، تقود سيارتها نحو مكتبها في قناة الجزيرة في مدينة رام الله. تتجاوز المشاهد المؤلمة المتناثرة على جوانب الطرقات بكثير من الصبر والأمل. أحياناً كانت تصور بعض تلك المشاهد وترسلها.

هي ابنة القدس البارّة، يطل الشموخ والوقار المقدسي العربي من وجهها، تلك المزايا الأصيلة لمدينة القدس والتي تورثها لأبنائها. صوتها الهادئ والواثق بعدالة قضيته يرسخ في ذهن كل الفلسطينيين. لقد تناست حياتها الشخصية وآثرت العمل من أجل قضيتها. هي تشبه القدس في كثير من جوانبها. كانت تتواصل مع زملائها ومع العالم ومع كل الفلسطينيين: الأصدقاء، الجيران، المرابطين، المعتكفين، الصامدين، الثكالى، الأيتام، الأطفال، الفقراء، الأسرى، أمهات الأسرى، المرضى، المنفيين، المبعدين، المشتتين، اللاجئين، المنسيين، ومع الشهداء، كانت ترى الشهداء في منامها. تعد تقاريرها بنفسها، تترصد الأخبار لتوافينا بكل جديد. كل فلسطين تعرفها وكل من يحب فلسطين يعرفها.

كنا نشاهدها في قلب كل حدث فلسطيني تقريباً، كانت حاضرة كلما حصل شيء ومقدامة وشجاعة جداً. كانت تسارع لنقل الحقائق، وكانت مستعدة أن تفتدي القضية بروحها. كنا نراها في باحة المسجد الأقصى، في باب العامود، في المقاطعة، في نابلس، في الخليل، في جنين الأبية، في بيت لحم، في سجن عسقلان حيث كانت أول صحافية تدخل السجن وتجري مقابلات مع الأسرى الذين حُكم عليهم بأكثر من مؤبد. وكنا نراها على تخوم غزة، وكانت تحب غزة وتدعو الله أن يحميها. في كل حدث كنا نراها، وفي كل مشهد يدمي القلب، وفي كل مأساة وفي كل ذكرى أليمة. كم كانت شجاعة! من أين استمدت كل تلك الشجاعة؟
من جنين الأبية، خرجت تقول: "جنين بالنسبة لي ليست قصة عابرة في مسيرتي المهنية أوفي حياتي الشخصية. إنها المدينة التي يمكن أن ترفع معنوياتي وتساعدني على التحليق عالياً".

وقالت أيضاً: "إنها تجسد الروح الفلسطينية التي في بعض الأحيان ترتجف وتقع، لكنها تفوق كل التوقعات وتنهض لمتابعة رحلاتها وأحلامها".

سبحان الله! كانت على يقين أن جنين ليست قصة عابرة في حياتها. لقد وُلدت مرة أخرى في جنين، ففي عام 2002، شهدت الملاحم والبطولات العظيمة لأهل جنين، فقد وُلدت هناك شيرين جديدة: شيرين أكثر قوة وشجاعة وصلابة وعزة.

لقد عاشت الملاحم وبحثت مع الأرامل والثكالى عن جثث أبنائهم. كانت تنسى أن تتناول الماء والطعام. كانت هناك بلا مأوى واستضافها السكان في بيوتهم، واضطرت في بعض المرات للمبيت في المستشفيات. ومن جنين سوف تبعث يوم الحساب.

وفي صبيحة يوم الاثنين، 9 أيار (مايو)، الشهر الذي يحيي فيه الفلسطينيون يوم النكبة، توجهت شيرين إلى جنين بعد أن أرسلت رسالة نصية قصيرة إلى قناة الجزيرة التي تعمل مراسلة لها، مفادها أن هناك أنباء عن اقتحام جديد لمدينة جنين وأنها ستوافي القناة بالأخبار حالما تتوضح الصورة. كانت هي الصورة الحيّة والمباشرة التي تناقلت الكرة الأرضية اللحظات المفصّلة لإعدامها ببث مباشر.

لقد أعدمت في مكان هادئ بالقرب من مقبرة جنين. أطلق عليها قناص بعناية فائقة ومركزة رصاصا حيا أصاب وجهها وهتك جمجمتها. كان القناص يراقبها وتركها تمضي وتقترب، إلى أن وصلت إلى مكان مكشوف فلا يعود يمكنها الاختباء ولا الفرار، مكان يقصده الصحفيون عادة ليبثوا الأخبار منه.

شيرين أبو عاقلةارتقت روح شيرين وسقط الدرع الواقي الذي كتب عليه بخط عريض وباللغة الإنجليزية كلمة صحافة (press) بلون أبيض لافت للانتباه، وارتوت الشجرة الوحيدة في الشارع من الدماء النازفة من جمجمة شيرين. ولم تستطع شيرين أرسال كلماتها المشهورة: "كانت معكم شيرين أبو عاقلة، جنين"، بل كانت أخر كلماتها تحذير لزميلها الصحفي علي السمودي عنما بدأ القنص. نادت عليه: "علي، علي".

وآخر الأصوات التي سمعتها وهي ترتقي لملاقاة ربها: صوت القنص الكثيف، وصوت ينادي: "إسعاف، شيرين، اسحبها، إسعاف، إسعاف، إسعاف".

D 1 حزيران (يونيو) 2022     A فنار عبد الغني     C 1 تعليقات

1 مشاركة منتدى

  • رحلت شيرين بجسدها ولكن حاضرة بصورتها التي لا تغيب عن الاذهان اغتالوها ولكن باغتيالها اغتالت صورتهم واتضحت الصورة والمشهد وافتضح أمرهم ومزاعمهم الكاذبة عن الديمقراطية والحرية وتشويه الحقيقة
    وستبقى شيرين أبو عاقلة أيقونة الاعلام الفلسطيني والكلمة الحرة


في العدد نفسه

كلمة العدد الفصلي 25: صكوك الغفران: تجارة لم تنقرض

أزمة النفوذ المزمنة، والتقويض الفعّال، في المنطقة العربيّة: بحثٌ نظريّ لممارسة سياسيّة ممكنة

شيء من اللغة العربية وقواعدها

من صناعة العربية إلى ملكتها في الفكر الخلدوني

عندما اشتعل الحريق