عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

زكي شيرخان - السويد

إحباط


زكي شيرخانمجلسها على الرصيف أمام المقهى التي اعتادت ارتيادها، اتخذته، وأمامها قهوتها، وفي يدها سيجارتها، تراقب المشاة باتجاهين، وكذا الحافلات الحمراء. قبلها، وعندما كانت تتناول إفطارها البسيط في الفندق الذي لا تغيره كلما زارت لندن، اتصلت صديقتها مُخبرة إياها أنها ستكون عندها الساعة العاشرة. ألقت نظرة على ساعتها، أمامها ما يقرب من ساعة. الجو، حسب الأنواء الجوية، سيبقى مشمسا، ربما إلى الليل، وهذه فرصة للسير على الأقدام لمسافات طويلة.

رغم الألم الذي يجتاحها، تصر على قضاء أيامها المعدودة في الفندق ذاته، والجلوس في هذه المقهى بالذات. عاهدت نفسها على ألّا تنسى من شاركها المكانين بعد أن فقدته إلى الأبد. احتفظت بأشياء كثيرة كان يملكها، وزعتها في بيتها، ساعته اليدوية، قلمه، قنينة عطره، بعض أربطة عنقه، بعض قمصانه.

أكثر ما كانت تخشاه، عندما رحل، أن يكون نسيا منسيا بعد حين، كما كل الراحلين. رغم السنوات الطويلة إلا أنها لم تنسه. تبكيه كثيرا. تشتاق إليه. تحن لحكاياته. تفتقد كتفه التي كانت تضع رأسها عليه كلما جلست إلى جانبه. "ها هو ذا أجوار رود باقٍ، وتقريبا، كما عهدتَه"، إجابة متأخرة عن سؤال طرحه ذات يوم وهما يحتسيان القهوة في نفس مكان جلوسها في نفس المقهى، "ترى متى أُنشأ هذا الشارع؟"، وممازحا "وإلى متى سيظل صامدا؟".

ثلاثة جمعتهم الدراسة في نفس الجامعة، هي وهو وزميلتهما الإيرلندية، والتي أصبحت صديقتها المقرّبة، وجمعتهم السياسة. هي، كما كانت تصف نفسها "يسارية بالفطرة". هو، كان منتميا لفصيل يساري يكافح لتحرير أرضه المغتصبة. وثالثتهم، شيوعية انتماءً. يساريون حالمون بمحيا عظام رَمَّت أو كادت. كان هايد بارك ملعبهم. لا يكلون الجدال، والنقاش، وإيراد الحجج. "التأريخ لم ينته بعد، أخطأ فرانسيس فوكوياما فيما ذهب إليه. فكما أن اليسار مأزوم، فالديمقراطيَّة الليبراليَّة هي الأخرى مأزومة". هذا ما كان مقتنعا به متكئا على المعايير الماركسية.

لم تكن، هي، بالمكترثة بهذا النقاش الفلسفي. قضيتها هي أرضه المغتصبة، وشعبه المُهجّر، وكثيرا ما طلبت منه أن يركز الجهد على قضيته.

"لم أنسها، ولم أقصّر فيها"، كان يجيبها في كل مرة.

قضيتها الأخرى، هي بلدها وشعبها المبتليان بطاغية دمرهما بحربيه. وعندما قرعت طبول الحرب الثالثة، وقفت ضدها، وخرجت مع المتظاهرين المنددين، الآملين أن تخمد رغبات من يريد إشعال نيرانها. وعندما سألها مراسل كان يغطي المظاهرة عن سبب اعتراضها على الحرب على بلدها بعد أن عرف جنسيتها، أجابت:

"أتظن أن من يريدون إشعال الحرب يهمهم من يحكم شعبي؟ أسلحة الدمار الشامل التي يملكها الدكتاتور ما هي إلا كذبة انطلت على أغلبكم وصرتم ترددونها كمُسلّمة، وقريبا سيعترف مروجو هذه الكذبة أنفسهم، وسيقدمون التبرير المناسب الذي سينطلي عليكم كالعادة. هذه الأسلحة دمرها مفتشو الأمم المتحدة كلها على مدى السنوات الماضية. يريدون تخليصنا من دكتاتور سكتوا عنه عقودا، لا بل ساندوه في حربه تحقيقا لمصالحهم. لَمْ يتركونا نقضي عليه عندما ثرنا عليه بعد حربه الثانية؟"

* * *

تحولت الزمالة بينها وبينه إلى إعجاب، ثم حب انتهى بالزواج الذي لم يدم إلّا أعواما قليلة لموته المفاجئ، والذي لم تظن أنها ستخرج من صدمته سالمة. وقفت صديقتها إلى جانبها محاولة، مع طبيبها النفساني، تجنيبها الانهيار. لم تنهر، ولكنها لم تسلم من الكآبة التي لازمتها، ولازمها إدمان أدويتها.

بعد رحيله، سكنها هاجس نسيانه. عاهدت نفسها أنها لن تفعل، فاحتفظت بأشيائه الصغيرة. كانت تحدثه كلما خلت إلى نفسها أو أوتْ إلى سريرها. وتقول لصديقتها "يحدثني كل يوم"، وهذا ما كان يقلق هذه الصديقة التي ظلت على وفاءها. كانت تصل إلى أسوأ حالاتها عندما تمر بأماكن جمعتهما. نصحها طبيبها أن تغير سكنها، وأن تُخفي ما احتفظت به من مقتنياته. أجابت:

"وهل عليّ أن أغير أرصفة لندن وشوارعها؟ في أي بقعة كنا معا، أجده معي".

خاطرت صديقتها، ذات مرة، رغم إدراكها أنها، ومن المحتمل، ألا تتقبل الأمر، وربما سيزعجها:

"لم لا تتركين البلد، ولو مؤقتا؟ سنة، أو أكثر، لا أدري".

فقط وجمت. حدّقت بعيدا. لم يظهر على مُحَيّاها علامات غضب، أو إنكار.

"المؤسسة التي تعملين فيها لها فرع في السويد، أليس كذلك؟ لم لا تطلبي نقلك إليها. يمكنك أن تشرحي وضعك لمديرك. لا أظن أن الرفض سيكون رده. ولو لبضع سنوات. بيئة جديدة. ثقافة مختلفة عما ألفتيها. ومن يدري، ربما..."

سكتت عندما لمست غضبا ترجمته العيون الواسعة التي تمتاز بها.

"آسفة، لم أقصد ما جال في خاطرك. أدرك حزنك على فقدان زوجك ووالدك ووالدتك. والقلق الذي عشته على أختك قبل أن تلتجأ، مع زوجها، إلى أستراليا، وأخوك الذي هاجر إلى كندا. وخيبة أملك مما آل إليه بلدك. ولا أريد أن أكون واعظة وأقول إنه ما يزال في الحياة ما يستحق العيش من أجله".

* * *

بين الفينة والأخرى، كانت تأتي إلى لندن في زيارات عمل قصيرة. لازمتها عادة النزول بنفس الفندق الذي قضت أول ثلاثة أيام زواجها فيه، ونفس المكان في نفس المقهى. تجلس وأمامها القهوة وتدخن متأملة المشاة، وحافلات النقل الحمراء. تنتظر صديقتها ليقضيا يوما في السير على الأقدام. وإن كان يوم التجمع الأسبوعي في الهايد بارك، فإليه تشدان الرحال. تجلسان مستمعتين دون أدنى رغبة في الدخول في سجال. فكرتْ بصوت عالٍ:

"كل شيء تغير. لم يصمد اليسار. واليمين ينحو نحو التطرف أكثر. يكاد الفارق بين أحزاب اليمين واليسار أن ينعدم. بعد أن انهارت قلعة ما كان يعتبر القلب، صار توجيه الضربات للأطراف أيسر عليهم، ويأتي أُكله. إلى أين يمضي عالم التوحش هذا؟ حتى التمرد الذي يظهر هنا وهناك بين فترة وأخرى في بقع متناثرة من الكرة الأرضية أضعف من أن يؤثر وإن كان، في بعض الأحيان، تحديا مزعجا ولكنه غير مقلق، وليس خَطِرا. اختفت الأيقونات الملهمة، وكأن رحم الزمان عَقُم عن إنجاب غيرهم".

لم تعلق صاحبتها. اكتفت بهزة من رأسها.

بدت في زيارتها الأخيرة، بصحة جيدة. صار صمتها شبه الدائم أقل. لم تعد تضع على عينيها النظارة السوداء الداكنة التي كانت ترى كل ما حولها غامقا، وتحرمها من التمتع بألوان كل شيء. بدأت ظلال ابتسامة تظهر على شفتيها أحيانا. صارت تعتني بهندامها أكثر. هذا ما دفع صاحبتها إلى الاعتقاد بأنها بدأت تتخطى المرحلة الصعبة التي طالت أكثر مما توقع طبيبها. وعندما أبدت ملاحظاتها له، والذي هو صديق زوجها، نصحها بعدم التمادي في التفاؤل.

"بعض المرضى تظهر عليهم علامات التحسن، إذ نراهم يقبلون على الحياة بنهم، ولكن هذه الحالة قد تسبق التدهور المقلق، كأن ما يمرون به أشبه بصحوة موت" كما شرح لها.

أزعجها تشخيصه، وأقلقها. هي تحبها وتتمنى أن تعود كما كانت أيام الدراسة، مملوءة بالحيوية، ومقبلة على الحياة، ولا يعرف القنوط إليها سبيلا. ليس في قاموسها مفردات اليأس. "من المبكر فقدانك".

* * *

في اليوم الذي صادف مرور عشر سنوات على بدأها العمل في السويد، غابت عن العمل. اضطر المدير أن يؤجل الاجتماع المخطط له، لأنها كانت العنصر الأساسي فيه. في اليومين التاليين لم تحضر. باءت كل المحاولات المتكررة للاتصال بها بالفشل، ولم تجب على الهاتف. ذهب أحد زملائها إلى شقتها. لم تستجب لطرقات الباب.
حضرت الشرطة إلى شقتها بعد إبلاغها. وجدوها ممددة في سريرها. يداها مشبوكتان على صدرها، وإلى جانبها علبة دواء فارغة.

"إنها ميتة منذ أيام. يبدو أنها حالة انتحار" قال من قام بفحصها.

"لن نجزم إلا بعد التشريح. تقرير الطبيب الشرعي سيكون الفيصل"، أجابه قائد الدورية.

D 1 حزيران (يونيو) 2022     A زكي شيرخان     C 4 تعليقات

4 مشاركة منتدى

في العدد نفسه

كلمة العدد الفصلي 25: صكوك الغفران: تجارة لم تنقرض

أزمة النفوذ المزمنة، والتقويض الفعّال، في المنطقة العربيّة: بحثٌ نظريّ لممارسة سياسيّة ممكنة

شيء من اللغة العربية وقواعدها

من صناعة العربية إلى ملكتها في الفكر الخلدوني

عروس القدس: شيرين أبو عاقلة