تامر عبد العزيز حسن - مصر
اليوم الأخير من حياة موظف
كان يجلس في ركن شبه مظلم من الحجرة، لا تكاد تميز ملامحه. كان كأنما يهرب إلى الظلام ويتخفى في ذلك الجزء من عالمه الخاص. تشعر بوجوده فقط عندما يلقي عليه لهيب الشمعة الوحيد بعض من ضوئه، وذلك يحدث عندما يتحرك أحدهم بالقرب منها أو عندما ينساب بعض الهواء البارد من الجزء المكسور من النافذة التي حاول من قبل أن يغلقها بقطع من الكارتون. ولكن يبدو أن الأمر يأبى أمام تيارات الهواء القوية التي كثيرا ما تخلع بعض مسامير التثبيت، فساعتها يتراقص لهيب الشمعة ويخبو ضوؤه حتى تظن أنه سينطفئ، لكنه لا يلبث أن يعاود شدة وهجه ويتلاقى بالظلال القاتمة على أطراف من وجهه العابس.
كان يرتدي ملابس بالية، وينظر بين الحين والآخر إلى أبنائه وهم يأكلون بنهم آخر ما تبقى من الطعام، بينما هو لم يتذوق أي طعام منذ يومين والجوع يأكل أحشائه، لدرجة أنه تمنى في بعض اللحظات أن تنتزع منه إنسانيته ويتحول لأي حيوان متوحش أو حتى حشرة صغيرة يقتات على أي شيء، ولا يوقفه أي من تلك المشاعر الأبوية، حتى يلتهم كل ما يستطيع، حينما تحل الأنانية مكان الإنسانية لديه. ولكنه تذكر أنه حتى بعض الحيوانات تدافع عن صغارها حتى اللحظات الأخيرة وأنها ربما تفقد حياتها في سبيلهم. وهنا شعر بمدى الوضاعة التي يمكن أن تصل إليها النفس البشرية.
اللهيب والجوع جعلاه يفكر أنه تماما مثل تلك الشمعة البائسة التي شارفت على انتهاء حياتها، لهيبها ليس كافيا أبدا للإنارة وليس كذلك للتدفئة، ولكنه في النهاية أفضل من الظلام الدامس، وأفضل من لا شيء. إنه يحترق من أجل الآخرين. ولكن من هم الآخرون؟ إنهم أسرته التي حمل على عاتقه أثقالها. تمنى لأوقات كثيرة أن يلقي بتلك الأثقال وأن يهرب إلى أي مكان آخر ويتحرر، ولكنه لم يستطع أبدا أن يتحرر من واجبه.
طوال سنوات كان يُمنّي نفسه بمستقبل باهر، ومن منا لا يُمنّي نفسه بعظيم الأحلام، خصوصا في مراحل الطفولة والشباب، ومع مرور الوقت تذبل تلك الأحلام وتصبح أقرب من السعي حثيثاً للسراب، ويصبح مجرد التفكير في تلك الأحلام نوعا من السذاجة أو هروبا من الواقع.
كان يحاول طول الوقت أن يكون منطقيا، وأن يحسب كل خطواته، ولكن يبدو أن القدر كان دائما ما يعانده، وخاصة أنه كان يلزم نفسه بكثير من المبادئ، والأفكار التي قد يراها البعض نبيلة في حين أن من مبادئه الأساسية الغاية تبرر الوسيلة، يراها ضربا من السذاجة، فحينما كان الآخرون يرتشون تحت مظلة كبيرة من الحجج كضعف الراتب، أو فهم صحيح لضرورات الحياة، أو صورة أخرى من الرزق، ويحاولون دائما أن يجدوا من البراهين ما تؤكد أحقيتهم بتلك الأفعال وتلك الأموال المنهوبة وينظرون إلى الآخرين من الشرفاء على أنهم مجرد سذج أو خائفين وخائبين، لا يحسنون استغلال الفرص. حتى أنهم قد تكالبوا عليه حتى افقدوه بالغش والخديعة مصدر رزقه، وهو لشهور طويلة بلا عمل، وكان يتمنى دوما أن يشعر بأن له قيمة وحياته تمتد بعد موته من خلال عمل يتركه في سجل الخالدين.
كان يتعجب من أنه وكثير من الشرفاء يصبح مصيرهم إلى كل ذلك الضيق، في حين أن زملاءه الذين باعوا ضمائرهم يشبعون بطونهم وينامون ملء أعينهم في فراشهم الوثير، لا يلقون بالا لألم الجوع ولا لقرص البرد، ولا يحملون هما للمستقبل كما يحمل هو. كان كثيرا ما ينظر إلى السماء ويتساءل: هل تلك السماء العظيمة وذلك الكون الشاسع على امتداده، ومع ذلك رزقه لا يكفيه وكأنه لا يتجاوز في ضآلته ثقب إبرة؟ ذلك كان يدفعه في كثير من الأحيان إلى الشك في مدى جدوى ما يفعله، ولا يدري هل يلقي اللوم على نفسه أم على الآخرين فيما وصل إليه.
كثيرا تمنى أن تتوقف الساعة وتنتهي حياته تماما، فطالما لم يكن عظيما، لم يحقق أيا من أحلامه، وضاع كل ما كان يصبو إليه، فلماذا كل ذلك العناء؟ وما الجدوى من الحياة نفسها؟
فكر حتى في أن ينهي حياته، لكن من ناحية واجبه نحو أسرته ومن ناحية أخرى خوفه من المجهول الذي يذهب إليه جعله كثيرا ما يتراجع عن تلك الفكرة، التي بدت له إنها اللحظة التي تمتزج فيها أقصى درجات الحماقة مع الشجاعة على اتخاذ ذلك القرار، مع الخوف من اللحظة المقبلة واليأس من كل شيء، فهل من يتخذ تلك الخطوة هو الأحمق الجبان أم اليائس الذي واجه أعظم مخاوفه بشجاعة؟
لكنه لم يكن يوما أحمق ولا كان لديه من الشجاعة أن يقوم بذلك الفعل. كان دائما يحاول أن يتشبث ببعض من الأمل، ولكنه أحيانا ما كان يفقد إيمانه بكل شيء وتتأرجح أفكاره بين الثقة والشك.
كان يدرك أنه كان يضيع الكثير من وقته في لوم نفسه والقدر، والأدهى أنه كان دائما ما يحاول أن يدرك الحكمة من وراء كل شيء، ولكن أغلب الوقت كان لا يستطيع أن يكشف اللثام عن تلك الحقائق ولا أن يدرك ما الهدف من ذلك. وقتها كان يشعر بدنو الحياة نفسها وأنها بلا أي غاية.
إنه لا يرغب كثيرا بالحياة الآن، ولكنه في ذات الوقت خائف على أسرته من المستقبل وخائف كذلك من الموت. وأدرك أن كل تلك الأحلام التي يُمنّي بها الإنسان نفسه، وكل الأفعال التي يقوم بها، هي البرهان على وجوده في الحياة وتمسكه بها وإبعاد فكرة الموت عن تفكيره.
وفجاءة سمع في الخارج أصوات أحد يقترب. كان يشعر بخوف شديد كلما اقترب أحدهم من منزله، فكثير من الدائنين كانوا يلاحقونه في الآونة الأخيرة، حتى أن خدمات كالكهرباء والغاز والاتصالات الأرضية قد حُجبت عنه. كان يخشى أن يقدم أحد الدائنين شكوى قضائية ضده، ولا سيما أنه قد باع كل ما يملك ولم يتبق له هو وأسرته سوى المأوى وبعض لقُيمات.
ومع اقتراب خطوات القادم، كانت ترتفع دقات قلبه، ثم كاد أن يتوقف تماما عندما سمع طرقا على الباب الخشبي المتهالك، وكاد أن يُغمى عليه من شدة الخوف. ولكن الطارق بادر بالسؤال عن اسم أحد جيرانه، فاطمأن قلبه، وأرشده إلى مكانه، ثم عاد إلى ركنه المظلم، ونظر إلى سقف الغرفة وقال بصوت يملأه الحزن: قد حاولت كثيرا بالعقل والذكاء ولكن قدرتك فوق كل شيء ما لي سواك يا إلهي.
وبينما كان مستغرقا في مناجاته، طُرق الباب طرقة يعرفها جيدا: صديقه الوحيد الذي كان دائم السؤال، وكان رغم قسوة الحياة معه لم يفقد أبدا الأمل. وعندما أطل ذلك الوجه المُحبب إليه، كان يبتسم كعادته في رضى، وكان يتعجب من مدى رضا وسعادة ذلك الصديق، رغم إنه كان يُعاني أشد منه ليس فقط من الجوع أو قسوة الحياة، ولكن كذلك من مرض عضال يُبلي جسده، لكنه لم يفقد إيمانه ولم يتمكن اليأس أبدا من روحه.
كانت الابتسامة تملأ وجهه، ودائما ما يتكلم بحماس وأمل، ويقين بحياة أفضل. كان موظفا بسيطا يُصارع الموت ولكنه لم يفقد قط إيمانه، وربما لذلك كان يحبه ويغبطه، وبينما كان يدرك أنه لم يتبق له في الحياة إلا قليلا، وأن الموت كان يشع من عينيه، إلا أنه كان كعادته متفائلا، وأخبره والسعادة تبدو على محياه بقبول طلبه للعمل كاتبا للقصص القصيرة في إحدى الجرائد المشهورة براتب مقبول. وكان ذلك أحد أحلامه التي عدّها في وقت ما مستحيلة.
والآن، بعد بضعة أشهر، حققت كتاباته نجحا مبهرا، وتهافت عليه حتى صناع السينما، ولكن سعادته لم تتم، فقد فارق ذلك الصديق الحياة، ولكنه للأبد سيظل يحيا بداخله، وستبقى ذكراه وابتسامته وإيمانه ماثلا أمامه مثالا يحتذي به.
وهنا تذكر ساعته الأخيرة معه: بينما كان ألم الموت يعتصره، كان ذلك الصديق يشد على يده ويطمئنه ويحاول أن يشجعه. وبينما هو ينازع الموت، كان يبث فيه الحياة. ومن خلف عباءة الحزن القاتمة، كان يظهر له بريق الأمل. وقد آن الأوان لأن يُخلد ذكراه في رواية يكون هو بطلها، رواية عنوانها «اليوم الأخير من حياة موظف».
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ