مريم محمد قوّش - فلسطين
شهيد الاحتلال والخذلان
النص المنشور أدناه منقول من صفحة كاتبته، الشاعرة مريم محمد قوّش، في فيسبوك. تم اختيار هذا النص وغيره لإعطاء فكرة عن الحياة من قلب الحدث في غزة. ونظرا لصعوبة التواصل مع كتاب كاتبات (وغيرهم) في غزة وعدم واقعية طلب كتابة نصوص للنشر في أعداد مجلة "عود الند" الثقافية حصريا، لجأنا إلى اختيار بعض النصوص التي تسنى لمن كتبها نشرها في فيسبوك، حرصا منا على وجود نصوص من غزة، وبدأ هذا منذ العدد الفصلي 31 (كانون الأول/ديسمبر 2023).
::
::
هذا الرجل الوسيم أبي. جميلٌ أنت يا أبي. جميل قلبك وجميل وجهك، وعظيمةٌ حياتك وعطرة سيرتك، واصطفاء الله لك شهيدا.
أجمل من كل ذلك لم تنل شهادةً واحدة يا أبي، بل شهادات يا حبيبي، وأي اصطفاءٍ أجلّ من ذلك، فكنتَ شهيدَ الاحتلال والخذلان، فحينما أُغلق معبر رفح في وجهك وفي وجه آلاف مرضى السرطان؛ كنت تقول واثقا: "إذا مت، سأكون شهيد الحصار".
ولكن الله يا حبيبي أراد لك شهادة أخرى، لتكون فائزا بشهادة أخرى، فكنتَ شهيدَ المرض. صبرت شهرين آخرين في مصر وأنت فقط تنتظر أن يُفرز اسمك في كشوف الصحة، واستشرى بك المرض، ثم خضعت لعمليةٍ جراحية إثر أخرى، لتستشهد مبطونا ممعودا في أرض مصر.
وأراد الله أن يكافئك بشهادة أخرى، فكنت شهيد الغربة. لكنه يؤلمني أنك استشهدت غريبا.
هل تعلم كم عذبني إغلاق معبر رفح، وأنا أتلوّع رغبة في السفر إليك؟ هل تعلم كم آلمني أنني كنت أشاهد جنازتك وأودعك على محادثة الفيديو عبر الماسنجر؟
هل تعلم كم قتلني صوتي وأمي تضع الهاتف بجانب أذنك، فأخذتُ أهمس في أذنك: "طبت حيا، وطبت ميتا يا أبي. ما أجملك! وما أجمل قلبك وما أجمل اصطفاء الله لك، إذ اصطفاك في وقت صلاة الجمعة، وأنت تلهج بذكر الله!
ما أجملك يا أبي! وما أجمل اصطفاء الله لك! لكنني يؤلمني قلبي يا حبيبي. قلبي الذي يحبك أكثر مني يؤلمني، فأنا أريد أن أعانقك؛ أضمّ روحك؛ أقبل يديك ورأسك وقدميك. أريد أن ألمس جبينك؛ أريد أن أراك.
أكثيرٌ علينا نحن الغزيين أن نودع أحبابنا الذين يرحلون؟ أكثيرٌ علينا أن نموت بين أحبابنا، وأن ندفن بين أهلينا؟ أكثير علينا أن نودّع الذين نحبهم؟ هل هذا كثير، أن نموت ونحيا كما كل الخلق؟
والله يا ربنا محزونون، لكنه يطبب قلوبنا المحروقة اصطفاءك. والله يا رب مكلومون ومخذولون، لكنه يهوّن علينا أنه في ضيافتك وأنت العزيز الكريم.
اللهم اجمعنا به في مستقر رحمتك مع الصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
اللهم هذه الليلة، أول لياليه في القبر: اللهم آنس وحشته، وارحم غربته، وتقبل حسناته، وتجاوز عن سيئاته.
اللهم طيب ثراه، وأكرم مثواه واجعل الجنة مستَقَرّه ومأواه.
اللهم يمّن كتابه، وهوّن حسابه، وليّن ترابه، وثبّت قدمه، والهمه حسن الجواب.
اللهم نوّر مرقده، وعطّر مشهده، وطيّب مضجعه.
اللهم كما سترته فوق التراب، فاستره تحت التراب. اللهم ارحمه برحمتك الواسعة.
= = =
9 تشرين الثاني (نوفمبر) 20024
رابط صفحة الكاتبة في فيسبوك:
https://www.facebook.com/maryam.mahd.9