عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

زكي شيرخان - السويد

عنق الزجاجة


زكي شيرخانجرت العادة أن يجتمع أفراد العائلة ضحى أول أيام كل عيد في منزل الوالد. الأولاد المتزوجون مع زوجاتهم وأبنائهم. البنات المتزوجات مع أزواجهن وأبنائهن. كنت الأصغر من بين الأشقاء والشقيقات والأوحد بينهم الذي لم يتزوج. كنت أعيش مع والديّ وحدي في الدار. لم أكن أحب العيد، ليس لأني لا أحب أن ألتقي بأفراد العائلة، بقدر ما كنت أنزعج من ضجيج العدد الكبير من الأطفال الذين يجتمعون. كانوا وبموافقة والدي يستبيحون الدار كلها. يحتلونها، عدا القبو حيث مكان خلوته، وبه كتبه، نفائسه، أوراقه، أقلامه، أسطواناته، ومذياعه. كنا ثلاثتنا قد أعتدنا على حياة هادئة، وأقرب ما تكون إلى الرتابة. كنت بحاجة إلى مثل هذا الهدوء عندما أعود من عملي المتسم بالتوتر والأصوات المرتفعة إلى حد الصراخ، وأنين المتوجعين.

هذا المنزل يقع في ضاحية من ضواحي العاصمة البعيد نسبياً عن مركزها. هذه الضاحية المتصلة إدارياً بالعاصمة، شانها شأن الكثير من مثيلاتها، هي أصلاً بقعة زراعية زحف عليها السكان كنتيجة طبيعية للتخمة في العدد والحاجة إلى المزيد مما يأويهم. منزلنا هذا، بني على مساحة تزيد على الألف متر. متعدد الغرف المؤثثة والمغلقة، ولم يكن مستخدم منها إلا أثنين. واحدة لوالدي ووالدتي وواحدة لي. ويحوي كذلك على حديقة مكتظة بمختلف الأشجار. المنزل، أقرب ما يكون لبستان. هو بالفعل جزء مما كان بستاناً. لم يقتلع والدي إلا الأشجار التي أعاقت تشييد البناء.

بحكم وظيفتي، لم تكن ساعات عملي تقتضي، كما باقي موظفي الدولة، أن أخرج صباحاً وأعود مساءاً. كنت أحياناً أواصل الليل بالنهار ولأيام عدةٍ. آخذ قسطي من الراحة كل عدة ساعات، أو كلما احتجت للراحة، في غرفة خاصة بي مهيأة لهذا الغرض في دائرة عملي. أحياناً كنت أذهب لعملي في ساعات الليل لأعود للبيت عند الصباح. وفي البعض من الأحيان، كان يقتضي مني أن أكون خارج العاصمة لأيام قد تطول أؤدي ما كُلفت به من واجب.

ساعات العمل الطويلة وطبيعته كانت تشد أعصابي. توترني إلى حد لم أكن أحتملها في البدء. ولكن بمرور الأيام والأشهر والسنوات باتت محتملة. بل وصار التوتر ضرورياً لإنجاز المهمات الروتينية الموكلة لي. فكلما كان التوتر أشد، كان إنجاز العمل يتم أسرع. حتى صار زملائي في العمل يراهنون بأن أُنجز عملاً ما خلال ساعتين إذا لمسوا فيّ درجة معينة من التوتر. ويراهنون أني سأنجز ما أوكل لي خلال ساعات خمس إذا ما لمسوا انخفاض درجة التوتر. وأحيانا وعندما يعجز أي منهم عن إتمام ما كلف به، أو يرى أن الوقت بدأ يدركه، يستعين بي.

كنت، عندما أتوجه إلى عملي، لا أفكر إلا بما يوترني، ويشد أعصابي، ويغضبني إلى حد الثورة. وما أن أدخل إلى محل عملي حتى أجد نفسي بحاجة لقضية أتولاها. أبحث في الملفات. أتفرس الوجوه. أسأل رؤسائي. حالي عندها يكون أشبه بمن فاتته جرعة من اعتاد تعاطي المخدرات. والويل كل الويل، إن لم أجد هذه الجرعة. لم يكن ليريحني إلا أن أكلف بواجب استعصى على غيري. صرت أعرف بـ (الفاتك)، وصارت المهمات الصعبة توكل لي. بدأت، بمرور الوقت، أشمئز من القضايا التي لا يستغرق إنجازها إلا الوقت القصير. أستنكف من القضايا البسيطة.

لم يكن أحد من أشقائي وشقيقاتي أو والدتي يعرف بالضبط عملي، وإن كانوا، ربما، خمّنوا ولم يتأكدوا. فقد دربتُ نفسي جيداً، أو بالأحرى دُربت على ألّا أتحدث عن طبيعة عملي. حتى عندما كنت أسئل من قبل أحدهم، كانت إجاباتي مقتضبة. مبتورة. لا تتعدى "لا بأس بعملي، رؤسائي راضون عني، أبلي بلاءً حسناً، ودوماً أتقدم."

والدي، هو الوحيد، الذي كان يعرف طبيعة عملي، وإن لم يكن يعرف التفاصيل. معرفته جاءت من خلال ما أقترحه هو علّي أن أعمل في هذا الاختصاص. توسط لي لدى بعض أقربائه ومعارفه من خلال علاقاته الواسعة لأن أحصل على هذه الوظيفة. كان رأيه "على عائلتنا أن تساهم، على الأقل من خلال واحد من أبنائها، بهذا العمل،" ويكمل "هذا العمل، ليس فيه فائدة للمجموع فحسب، بل هو رفع لمكانة عائلتنا، وتأكيداً لولائنا، ناهيك عن الفائدة الخاصة."

وجدت نفسي مقتنعاً برأيه إلى حد كبير خاصة وأن رأيه كان مدعوماً بامتيازات مادية ومعنوية علقت في ذهني خلال مشواره الوظيفي الطويل كضابط شرطة. وبسبب هذه الوظيفة امتلك هذه الدار الكبيرة، وامتلك مزرعة، وثروة نقدية طائلة، ناهيك عن الامتيازات الخاصة خلال إداءه الوظيفي قبل أن يحال على التقاعد، وأبسطها سيارة حكومية بسائقها، واقفة أمام الدار لتلبي أية إشارة من أي واحد منا.

وهكذا، حصلت على الوظيفة. في البدء، وخلال الدورات التدريبية، كنت أحياناً، أحس بضيق وندمت على اقتناعي برأيه. بل أحسست، في فترة ما، بأني نفذت رغبته هو، وأني أصبحت امتداداً له. ولكن مع مرور الأيام والتدريب المتواصل صرت أتقبل العمل. ثم تحولت إلى مرحلة الارتباط به، ووجدت نفسي أخيراً أجد متعة في إدائه. وعندما يتمتع المرء بعمله فإنه يؤديه بإخلاص وتفانٍ.

لم أمنح نفسي فرصة كي أمعن النظر فيما أقوم به. ولم تكن تهمني مثل هذه الفرصة. لماذا إمعان النظر في عمل آتى أوكله؟ فها أنا ذا في مركز مرموق. مرتبي يوازي مرتبات عدة موظفين معاً من أقراني في الدوائر الأخرى. أستخدم أحدث السيارات. أنهل من المتع الحسية ما شاء لي. وفوق كل ذلك تحقق ما كان الوالد يصبو إليه. فرضت عليّ هذه الفرصة من حيث لم أرغب بها.

* * *

وفُرضت علّي فرصة أخرى من حيث لم أرغب بها، هي الأخرى. كانت تلك بعد أيام من تلك الليلة الصيفية من اليوم الثامن، من الشهر الثامن من العام ثمانية وثمانون، حيث عمت هستيريا الفرح الجمع كله فخرج إلى الشوارع بغير ما انضباط. الإطلاقات النارية من كل الأسلحة ملئت السماء. الرقص على قرع الطبول، والتصفيق على أنغام منبهات السيارات. كانت الحناجر تطلق صرخات غير متناغمة. انهمرت المياه فوق الأجساد والسيارات والأرصفة والشوارع وكأنها تريد غسل ما علق بها من رائحة البارود دون أن تستطيع غسل الأحزان من النفوس.

كان الجمع يحتفل بما ظنه أن الموت قد توقف عن التجوال في السهول والوديان والجبال والأهوار والمدن. بُلّغنا بأن ننزل إلى الشوارع، ونطلق الأعيرة النارية معهم. نلهب حماسهم. وفي نفس الوقت علينا أن نستعير عيوناً مع عيوننا، وآذاناً مع آذاننا لرصد من يمكن أن يستغل الوضع.

بعد يوم الأيام ذلك، كان في زيارتنا صهري وأحد إخوته. جاء يستشير والدي الذي درس القانون في فترة من فترات خدمته في سلك الشرطة دون أن يمارسها، أو بالأحرى جاء يسأله عمن يمكن أن يوكل من المحامين الذين تمتد أيديهم في زوايا الدوائر الحكومية لضمان كسب قضية كان عليه أن يحسمها أمام القضاء. كان ما زال الجو العام يحمل بقايا من احتفالية مفتعلة كان عليها أن تمتد إبعاداً لستر رزايا ثمانٍ من سنوات عجاف. وعلى رأس هذه الرزايا فتح الأقفاص كي يعود من كان فيها بعد غيبة سنوات، ومعرفة أين هم من لم يكونوا في الأقفاص ولا تحت الثرى.

تجاذبنا أطراف الحديث، وطبعاً حديث الساعة كان هذا العرس الذي ما زالت العروس فيه تنتظر عريسها المُغيّب. قال الوالد:

= على هذا الرجل أن يفعل شيئاً قبل أن يفيق الناس ويطلبوا ما سكتوا عنه خلال السنوات الماضية.

رد عليه أخو صهري عليه وابتسامة هازئة ارتسمت على محياه وبنبرة لم يكن الاستهجان مستوراً فيها:

= اطمئن يا عمي، فإن الرجل لها. هذا الرجل هو رجل المهمات هذه.

ستجدنا بعد أسابيع أو على أبعد حد بعد أشهر في عنق زجاجة جديدة.

أحسست بغضب يسري في جسدي، ولكني وكالعادة لم أُظهر منه ما يشي به. أثناء سيرنا إلى خارج البيت لتوديعهما، همست بأذن صهري دون أن ينتبه الآخرون:

= أخوك هذا يحتاج إلى أن يعيد النظر بآرائه، وإلى التحفظ في كلامه.

كنت أود أن أخبره بأن يحذر مني، ولا يعتمد على صلة المصاهرة التي تربطنا والتي لا هي ولا غيرها تعني شيئاً ضمن عملنا.

ركنت إلى غرفتي محاولاً إيجاد تفسير لما قاله هذا الذي من وجهة نظرنا حاقد موتور. ترى كم من أمثال هذه العينة موجود ضمن المجموع؟ في قناعتنا غير المعلنة كان الجميع من مثل هذا، أعداء يريدون هلاكنا، ويودون لو رأوا نهايتنا. كان علينا أن نتعامل مع الكل من خلال منظار الريبة والشك حتى لو كان البعض ضمن خط عام مرسوم بدقة. كنا غير غافلين عن حقيقة أن البعض سلك الدرب خوفاً، أو طمعاً، أو في أحسن الأحوال هو راكبٌ الموجة. لم يهمني ما قاله له أبي، فهو يعتبر نفسه جزء من المنظومة، فهو موالٍ لها حتى نخاع العظم، وما أبداه من رأي ما هو إلا رد فعل مشروع يراد من وراءه ديمومة المنظومة ودرء الأخطار عنها مهما كانت بسيطة.

* * *

صارت الأعياد تمر برتابة مملة، وصار معها التجمع في أول يوم واجباً ثقيلاً يؤديه الكل تمسكاً بتقليد في سنوات لم تعد التقاليد من الثوابت. بعض الأحفاد وصل إلى أعتاب المراهقة. ارتفعت أصوات شكوى من كل شيء مشوبة بخوف من سنوات أخرى سرعان ما يبتلع جحيمها هؤلاء المراهقين. لم يعد يهمني من حديث إلا ما يقوله والدي والذي خيّم الوجوم عليه خلال الفترة الأخيرة. نظراته الحائرة تدل على بحثه الدائم عن الحماية. أشعر بأن الخوف بدأ يغزوه. كنت أود لو أعرف ما الذي يخفيه ويخيفه. لقد مرت بنا أيام أصعب من هذه. ما باله؟ ما الذي يراه غير الذي نراه نحن بكل ما أوتينا من إمكانيات؟ قوتنا لم تضعف وعزيمتنا لم تلن. أهو الكبر المنذر بالرحيل أخافه؟

جرت الأيام مسرعة، وتلاحقت الأحداث، وتوترت الأجواء، وأنا ماضٍ في عملي دون كلل كأني في مكان آخر وزمان آخر. إلى أن جاء، كالقدر المحتوم، ذلك اليوم، الذي كان، أيضاً في الشهر الثامن من عام غير ذلك الذي أوهمنا أنفسنا فيه أن لا طبول حرب ستقرع من جديد. نزل كصاعقة على نفوس لم تكن بحاجة إلى ما يزيدها حزناً، وعلى أرواح لم تكن بحاجة إلى ما يزيدها قلقاً. انشغل العالم بتحليلات نتائجه، ومحاولة استباق الزمن للكشف عن ردود الفعل. أهذا ما كان يريده من الرجل كي يشغل به الكل؟ أهذا ما سيؤخر المطالبة بتسديد ما أستحق من دفع؟ كنت أود أن أطرحها أسئلة لم أجد أجوبة لها، على والدي وليس على غيره. لم يسعفني الوقت حيث قضيت الأسابيع التي تلت ذلك اليوم في مقر عملي بشكل شبه دائم. كان لابد من الاحتياطات التي دُربنا على اتخاذها في مثل هكذا ظروف. لم يعد بالإمكان ملاحقة الأحداث. الزجاجة هذه المرة عنقها أضيق من سابقتها.

في إحدى الزيارات القصيرة التي كنت أقوم بها للبيت لغرض استبدال ملابسي، كنت أجلس في الصالة أشرب الشاي مع الوالد ونتجاذب أطراف الحديث على قدر ما يسع وقتي. دخل صهري وأخوه الذي بدا عليه حبور غير عادي. ما أن جلس بعد تحية المجاملات حتى بادر:

= أسمعتم آخر الأخبار؟ لقد...

قبل أن يستطرد، سأل الوالد مقاطعاً:

= هل قرر الانسحاب؟

أطلق ضحكة عرفت فيما تلا من وقت أنها كانت من باب التشفي، ثم قال:

= لقد بعث الرجل برسالة إلى حجة الإسلام، الرئيس، الأخ، يقر له بكل شيء...

سألته مقاطعاً حديثه، وشاكاً فيما قاله:

= ما هو مصدر خبرك؟

وظننت أنه لم يسمع سؤالي عندما أكمل كلامه:

= ... وهذا ما ينطبق عليه المثل (كأنك يا أبا زيد ما غزيت).

أستدار نحوي مجيباً سؤالي:

= لقد أذاعت إذاعتهم نص الرسالة قبل ما يقرب من ساعة.

= لكن مصادرنا الإعلامية لم تذع مثل هذا الخبر.

= كالمعتاد، نسمع أخبارنا من الخارج أولاً، ثم نسمع النسخة المنقحة من الداخل. عليك بالتلفاز لعله حان وقت إذاعة الخبر.

هممت بالتلفاز، وإذا بالمذيع قد بدأ بقراءة الديباجة التي تسبق مثل هذه الأخبار. وما أن قرأ المذيع أول سطر، حتى سمعت ضحكة أخرى أطلقها معلقاً:

= صار أخاً الآن، وأصبحنا جارتين تربطنا وشائج لن يستطع الحاقدون فكها...

لم أسمع ما تبقى من حديث هذا الذي تمنيت، ساعتها، لو لم تتم المصاهرة بين عائلتينا بسببه. هذا المذيع وجه شؤم. هذا يوم نحس. هذا بيت يجب أن أخرج منه قبل أن ينفجر غضبي.

تركت الدار حاملاً حقيبة ملابسي، ولا أدري أن كنت قد ودعتهم أم لا. ظل صدى هذه الضحكة الشامتة يلاحقني إلى أن وصلت إلى دائرتي. كانت الوجوه التي قابلتها في الممر إلى غرفتي تشي بما في داخلها. صدمة ٌهي هذه الرسالة.

هاجس لازمني. بدأت سوسة الشك تنخر عقلي. وبدأت الأسئلة تطل برؤوسها من شقوق جدار بنيته منذ زمن صدّعه دوي الأحداث. أكل هؤلاء الناس الذين وقعوا تحت يدي كانوا على خطأ؟ أغلبهم أ ُخذ بالشبهة، وهؤلاء ليسوا معنيين بهذه الأسئلة، ولكن الآخرين الذين ثبتت نشاطاتهم، من أي زاوية كانوا ينظرون إلى ما يجري؟ وفي محاولة مني للإجابة عن هذه وغيرها من أسئلة بدأت تعمل كهراوات تنزل على رأسي، فتحتُ ثغرة في الذاكرة أمد أصابع الخوف من خلالها مستلاً القديم من الأحداث عله يعينني.

أدهشني بعض هذه الأحداث، وخجلت من بعضها الآخر، وبعضها أثار شيئا من غضب في نفسي. اختلطت الدهشة والخجل والغضب بالكثير من الألم والأسف ونزر يسير من ندم. هذه الخلطة تحولت إلى عفريت خوف انطلق من قمقمه وأراه يتعملق. وكلما أجبت عن سؤال برز آخر أشد قسوة. لم يعد هناك من حاجة للأصابع فقد تدفق سيل القديم من الأحداث لزوجتها مقرفة ورائحتها نتنة. أحداث افتعلت. أخرى هوّلت. لُفقت. شوّهت. دُنست. خُلطت...

* * *

مرت الأيام وأنا شبه غائب عما حولي. انكمشت على ذاتي. بدأت أتشرنق. شحب وجهي، وبدأ الوهن جلياً على جسدي. زملائي، لاحظوا ذلك. سُئلت عما إذا كنت أحس بعارض ما. كنت أتحجج بالإرهاق نتيجة التواصل. مديري المباشر قال لي:

= حالما تنتهي هذه الأزمة سأمتعك بإجازة لبضعة أسابيع تعود بعدها إلينا بكامل عافيتك.

لا أدري كيف ولماذا قلت له، وكأني مغيّب الوعي:

= أتمنى أن آخذ إجازة دائمة.

لم يظهر عليه، كما دُربنا تماماً، ما ينم عن الدهشة. ملامحه ظلت حيادية وكأنه لم يسمع شيئاً. بعد هذا الحادث بأيام، قال لي:

= أنت تعرف أن الاستقالة تحتاج إلى إجراءات عديدة وموافقات خاصة، إضافة للوقت للبت بها.

كان يريد التأكد من أني عاقد العزم على هذا الأمر، وإن ما قلته لم يكن بسبب الإجهاد النفسي. ببرود لم أعهده أنا، قلت:

= فليأخذ الأمر من الوقت ما يأخذه.

= حسناً، سنبدأ الإجراءات حالما تسنح الظروف.

= أتمنى أن تسنح عما قريب.

لم يعلق بشيء، إلا أن ابتسامة، لم أكترث بما تعنيه، ارتسمت على شفتيه.
فيما تلا من أسابيع كانت الأحداث تدل على ما يدعم حدسي بأن عنق الزجاجة هذه المرة أضيق، بل أشد ضيقاً مما خمّنتُ.

بُلّغت بموعد الفحص الطبي. هذا الإجراء الدوري كان متبعاً للتأكد من سلامة كل المنتسبين لهذه الدائرة من الأمراض، والوثوق من اللياقة البدنية والنفسية. بعد إجراء هذا الفحص بأيام بدأت أحس بالإجهاد أكثر، ولازمني الصداع، وبدأت أعاني من قابلية بصري والشعور بالغثيان. وبدون أن أطلب، صدر أمر بتمتعي بإجازة لمدة شهر. في اليوم الثالث لإجازتي، زارني أحد مرؤوسي للاستفسار عن موضوع لم يحسم قبل بدأ إجازتي. كان هذا الشخص من ضمن المجموعة التي أجرت الفحص الطبي الأخير. سألته فيما لو كان هو الآخر يشكو من الألم العضلي الدائم في مكان زرق الحقنة الطبية. لاحظت عليه الاستغراب، وهو يقول:

= أية حقنة؟ لم يزرق أي منا حقنة.

استغربت أنا الآخر من الأمر، فقلت:

= أخبروني في المستشفى بأن هذه الحقنة هي للوقاية مما يمكن أن يُلوث به الجو نتيجة استخدام أسلحة متطورة فيما لو حصل تطور أدى إلى المجابهة العسكرية.

استغربت أكثر، عندما أكد لي بثقة بأن هذا الشيء لم يحصل لأي من المجموعة التي أُجري الفحص الطبي لها، ولم يجر التطرق لتلوث البيئة ولا إلى الحرب القادمة. ودعني عائداً ليترك في عقلي تساؤلاً مرعباً، هل تراهم لوثوا دمي؟ نخروا جسدي؟ رسموا نهايتي؟ لم يكتفوا بذلك بل أرسلوا هذا المرؤوس ليبلغني بذلك ويقدم لي التعازي ونعاني رسمياً.

D 30 تشرين الثاني (نوفمبر) 2024     A زكي شيرخان     C 0 تعليقات