عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

حاتم الشبلي - السودان

سوق العزبات


زيارة خاطفة إلى هذا المكان ستجعلك تغير اعتقادك القديم حول إرادة الأنسان، فإن كنت مع فلاسفة الإرادة الذين يؤمنون بأن قوى الأنسان الداخلية وتصميمه على تحقيق أهدافه تحقق له ما يريد، وبأنه ما من شيء خارج متناول تلك الإرادة السحرية، فستنبري لك حاجة أم ملاح وتخبرك بغير ذلك.

ستجزم لك ملء عينيها الحزينتين بأنها لم تترك بابا ولا مجالا إلا وطرقته حتى ترفع عن نفسها تلك التسمية التي يجلدها بها الناس صباح مساء، ويتغامزون فيما بينهم ويتبادلون أسرار نقصها وعيبها الكبير من خلف ظهرها، أو أمامها في بعض المرات، خاصة من بنات نوعها الآدمي، اللاتي يجدن كامل متعتهن حينما يتفقدن موقعها على الخريطة الاجتماعية. وستجد الصدق فيما قالت، وتتعاطف معها دون أن تشعر.

ابتسمت أم زين واستجمعت ما تبقي من كبريائها وقالت: "الحياة قسمة ونصيب"، وكانت قد سكتت عن سوء حظها فيما يبدو، وأشارت بعبارتها تلك إلى مخرج متواضع من ورطتها الخاصة، أو يمكن أن تأخذ كلامها باختصار على أنه حكمة مستهلكة لعزاء النفس أو رثائها. ونظرت لما وراء ابتسامتها من جديد، تلك التي تركت عليها الأيام بعضا من الحزن والقلق المزمن وسوء التفاهم.

وأنت تتجول ما بين مفروشات، وملابس نسائية، وأحذية، وأواني منزلية، وقوارير معبأة بالجازولين الأبيض، وبهارات، وما شابه من أغراض صغيرة، تقع عيناك على الجزء الآخر من السوق. هنا تباع أشياء مختلفة، وجدت نفسك بالصدفة، أو ربما استدرجتك تلك الروائح الحريفة.

اكتشفت للتو أنك أمام معرض متكامل لأصناف العطور والبخور المتعارف عليها، والتي تنم عن عبقرية نسوية محلية لاجتذاب اهتمام الرجال، حيث تجد النساء ما يردنه من أنواع البخور والدلكة والمسك، وخلائط العطر الغالية الثمن المستجلبة عبر البحار من بلاد الهند البعيدة.

تخطر على بالك الأسئلة، وتلملم التفسيرات أطرافها: لماذا هذه التجارة على وجه التحديد؟ وهل هو نوع من التعويض؟ وتقع عيناك على مشهد بيع.

"كوم البخور ده بي كم يا حاجة؟"

"بي خمسة جنيه".

"أديني اتنين بي تمانية جنيه".

"كويس".

وتضغط على الكلمة الأخيرة بطريقة تعجبك. تتبعت مصدر الصوت بطريقة لا شعورية، حتى تلك الانحناءة الباهرة وهي تبحث تحت قدميها عن كيس بلاستيكي لتضع فيه البخور، وتتبعها عيناك بانتباه لترى الساقين المخروطيين فيبدوان وكأنهما قرصا آيسكريم، تمنيت لو تلعقهما في لحظة، وامتد لسانك ملامسا شفتيك ببطء، ثم عاد إلى مكانه. اقتربت منها، سألتها:

"اسمك منو؟"

"نعم، الكوم بي خمسة جنيه يا ولدي".

تصفعك إجابتها كما لم تكن تتوقع، نظرت إلى عينيها مباشرة، وأدركت في الحال ما حاولت إخفاؤه وما أرادت إظهاره بقولها "يا ولدي". أصابك ارتباك مفاجئ، جعلك تبتعد عنها وكأنما لم تكن تعنيها بالسؤال، ولم تكن تعنيك هي الأخرى بإجابتها.

قلت لنفسك، تلك المرأة تخفي بداخلها حزنا وألما وتحاول مداراته بانغماسها في لعبة السوق، وإنها لتجد عزاء وسلوى وسط هؤلاء النسوة، وتجد إحساسها بالأمان والانتماء، فهي لم تعد وحيدة، مقهورة، محزونة وتصطادها الألسن بالعبارات الجارحة والتلميحات الحادة، فتبدو داخل ذاك الثوب الذي يلائم ذوق امرأة ستينية أكثر كرامة وتماسكا.

هممت بالعودة إليها مرة ثانية لهدف واحد فقط، لتسألها هل هي متزوجة، وكم عمرها، إلا أنك في أخر لحظة استدركت سخافة الموقف الذي يمكن أن تضع نفسك فيه، فعدلت عن رأيك.

ذهبت من اتجاه آخر. وجدت بعض النسوة اللاتي تجاوزن الأربعين، يجلسن متجاورات ويتطلعن خلسة في وجوه الرجال العابرين، يتبادلن تعليقات جانبية فيما بينهن، وقد وضعن أمامهن عددا من المصنوعات الفخارية، ودلاليك بمقاسات مختلفة طبعت في وسطها أحدث أسماء أغاني البنات، وأزيار، وقلل، وكوانين متعددة الأحجام والاستخدامات، وينادين على بضاعتهن برجاء مستتر فالطلب عليها أقل كما ترى، فقد اختفت هذه المفردات من أغلب البيوت في المدينة وأضحت جزءا من التراث والفلكلور.

بعدها بخطوات يمكن أن تصل لنهاية السوق. وتمشي. تطن في رأسك تلك الأحاديث الافتراضية التي خضتها مع أم ملاح وأم زين. تمضغ تلك الكلمات كعلكة خالية من السكر، تنشط في قراءة ما وراءها وما تستره وما تحيل إليه من دلالات وأحوال، فينشغل ذهنك بتلك الرياضة. وأثناء ذلك كله، لا يفارقك منظر الساقين المخروطيين، فيعاود لسانك التلويح عبر شفتيك من جديد، وكأنه يرسل إشارة الوداع.

D 25 آب (أغسطس) 2014     A حاتم الشبلي     C 0 تعليقات