نورة عبد المهدي صلاح - فلسطين
صبارة ونصان آخران
صبارة
بعد خمسة عشر عاما من الغياب عاد صديق قديم. أكل الغياب بعض ملامحه. أول حديث بيني وبينه أخبرني أنه ما زال يحفظ عهدا قديما قطعه على نفسه. من كثرتهم لم أتذكر عن أيها يتحدث.
أكمل حديثة: صبارة وشجرة زيتون، زرعتهما لأجلك وسميتهما باسمك، يأكل الطير منهما، ويستظل بهم من أراد.
طلب مني مرافقته لأشاهدهما عل سرورا يدخل قلبي، وعزيمة تقوي خاطري المكسور. رافقته على مضض، تركته يتحدث عن عائلته التي كونها: أطفاله وقصص أسمائهم وبعض تصرفاتهم.
قطعنا نصف المسافة في قريته الهادئة، تلك التي ينام نصفها الأول بحضن الأم، ونصفها الآخر محبوس بين فكي أسد لعين، جدار يشكل غصة بالروح والأمل والطموح.
استقبلني وعده واقفا: صباره تصلي شامخة في معبدها، تسجد بعيدا عن العيون، وفي الليل الحالك، تضيء للعابرين من شوكها قناديل، رغم وحشة المكان ووحدتها ما زالت صامدة، تعانق الجدار الصامت، وتأن توجعا للزيتونة التي تبعد عنها مسافة سياج كهربائي شائك، ذكرني بفراقنا وألمنا النازف إلى الآن.
تأملت مشهدها طويلاُ في ذهول، عناقي لها غرس أشواكها بوجهي، اختلط دمي ودموعي بمائها؛ توحدنا فما عدت أعرف من كان يئن توجعا من جروحه: أنا أم هي؟
قطع صوته نشيجي حين قال: "رغبت في إعطائك دروسا في الصبر والعطاء. عطاء الزيتون بعد سنوات، وعطاء الصبار على قدر احتماله".
رسم الوجع على وجهي ابتسامه ساخرة: أي درس ذلك الذي يستمر بالصبر خمسة عشر عاما؟ وأي عطاء ينتظر من روح شربت مرارة الوحدة كل هذه الأعوام؟.
كلانا يحمل ذات الاسم مع فارق بسيط. نجحت الصبارة بإخفاء قلبها عن العيون، وادخار حبها لمن يستحق، نبت الشوك فيها مكان الطعنات المتتالية لتضعف صبرها، فما زادها ذلك إلا عزيمة وصلاة لا تمل من الوقوف والركوع والسجود؛ ينبلج من الظلمة صبحٌ بهي يبدل الشك بيقينٍ، بعودة الزيتونة لقربها من جديد، حيث جزاء الصبر عطاء لا ينتهي من النعم.
عدت محملة بنصف قارورة من عصارة الصبر، أداوي بعض الجروح وأترك تلك التي لا تندمل بسهولة للزيتونة حتى تبدل الألم أملا، والأنين بلحن ينفي هذا الحزن العنيد.
مربعات متقاطعة
درجت عادتي اليومية في تصفح جريدة الصباح على تسلية عقلي بمربع الكلمات المتقاطعة، تلك التي بدأت بالاختفاء تدريجيا من صفحة المنوعات لتحل محلها إعلانات رخيصة، أو صور خليعة، أو مساحة لجريمة جديدة.
في كل مرة أنظر فيها للصفحة ولا أجد المربع أتذكر كم من الأحلام كتبتها في لحظة ملل، وتقاطعت على الورق لتشكل نقطه جميلة لالتقاء لطيف، لعبة صباحية كثيرا ما تحولت مع المساء لشعور حقيقي.
منذ أن اختفى ذلك المربع من صفحتي اليومية، بدأ الحلم ينقبض بياضه، ويطغى عليه سواد المربع الأكبر، مشكلا في تقاطعه الكامل هذه الحياة.
أجندة
يتحدث كل منا عن أجندته الخاصة. تلاحقني هذه الكلمة أينما ذهبت، ظننت أني لو وضعت في حقيبتي أجندة تحتوي على أبجديات ورموز، مصطلحات ومفاتيح اتصال، وفراغات أدون فيها مواعيد وملاحظات وهواتف وعناوين، لوصلت سريعا دون أن أتأخر عن كل ما أريد: عمل، موعد غرامي، أو بداية جدية لعلاقة طيبة، صداقة ، أو صحوة مبكرة من حلم يراودني كثيرا ولا يتحقق. المهم أن أصل لنتيجة ما دونت.
لم أدرك وقتها أن الخطأ ليس فيما نكتبه ونحتفظ فيه بجدولة حياتنا اليومية، وليس مهما ما نوع هذه الأجندة: أهي بسيطة أم كثيرة التفاصيل. كل ما كتبته وما سأكتبه في أجندتي لا يتفق ولا يتقاطع مع أجندة الآخرين ومفاتيح التواصل معهم.
◄ نورة صلاح
▼ موضوعاتي
4 مشاركة منتدى
صبارة ونصان آخران, أشواق مليباري | 29 آب (أغسطس) 2014 - 14:02 1
ما أجمل نصوصك يا نورة
مثقلة بالألم والحزن والجمال في نفس الوقت.
أعجبتني الصبارة كثيرا وأوجعتني.
شكرا لك
صبارة ونصان آخران, ناجي بركات ززز فلسطين | 30 آب (أغسطس) 2014 - 12:01 2
تصرُّ الكاتبة نورة على حبِّ المكان والالتصاق به ، وجعله بطلًا يشاركها عواطفها ، وعقلها .
صوَّرت نورة لقاءَها بمن تحبُّ بعد غياب ، فجعلت الأرض شريكًا حيًّا لها فالصبَّر رمز الصبر على كلِّ المعاناة ، الصبر على يحيط به من أشواك تطوقّه فيصبر على معاناته ...والزيتون الممتد في أعماق الأرض أصله ثابت وفرعه في السماء لتعبِّر عن تجذَِرها والتصاقها بالأرض وهي تعطي فهي مباركة تعطي وتصمد في وجه أعتى الرياح .
وجدتني شريكًا لنورة في صمودها ، وصبرها وعطائها ، فقد جعلتني بأسلوبها الإبداعيّ جزءًا من نصِّها ، ومعاناتها وعطائها ..
أبدعت أستاذة نورة ... وفَّقك الله وإلى الأمام ...
_
صبارة ونصان آخران, هدى أبو غنيمة الأردن عمانh | 6 أيلول (سبتمبر) 2014 - 13:42 3
أ/نورة جميل هذا البوح المفعم بالشفافية والكبرياء ووخز شوك الصبار لمن لايعبأ بمشاعر الآخرين ,ومعاناتهم دمت معطاءة عصية على الاقتلاع كشجر الزيتون.
صبارة ونصان آخران, فراس من فلسطين | 20 أيلول (سبتمبر) 2014 - 21:27 4
مبدعة يا نورة في ترتيب الكلمات لتجعليها اكثر تشويقا، اعجبني ما كتبت