غانية الوناس - الجزائر
حفلة بكاء ونصوص أخرى
في حضرة مغادر
أجلسُ هذا المساءِ قريبةً من الحلمِ و منه، بيننا خطوةٌ أو خطوتان، مسافةٌ من الحلمِ والترقبّ والانتظار، ها هو أمامِي يُعدّ حقائبهُ للرحيل، يجمعُ شهوره، أيّامه، ساعاته وبعضَ الثوانِي الّتي تبّقت منه.
أيّها العامُ المغادرُ قسراً، هلاّ شاركتنِي قهوتِي المرّة هذا المساء؟
أنا الّتي لا أحتسيها عادةً، سأشارككَ إيّاها بحبّ كبير إن أنتَ وافقت، اجلس هُنا بحزنك السخيّ، بظّلمك الكبير بقهرك، بخيبتكَ الثقيلةِ، بسوادِ وقتك، ببهجتكَ القليلة، بشحّ الفرح فيك، تعالَ نتسامر هذا المساء.
في آخر هذا الليل الطويل الممتدّ في ثقوب الذاكرة الثقيلة جدا، دعنا نسترقُ السمعَ سوياً لصوتِ الموتَ فيكَ، فقد كان طاغياً جداً، هل تذكر؟
دعنا ننصت لصوتِ القصفِ فيك فقد كانَ الموسيقى الأكثرَ شيوعاً فيكَ، فهل تذكر؟
دعنا نبتسم ونحنُ نحتسِي قهوتنا بمرارةٍ ونضحك، يقولونَ إنّ الضحك بسّخاءٍ علاجُ المقهورين، دعنا نصلِي معاً آخر الليل، دعنا ندعوُ الله أن يجعل العامَ الّذي يليكَ أفضل منك، أن يكونَ سلاماً، فنحنُ لا نحتاجُ لأكثرَ من السلامِ لنكونَ بخير.
قلبِي معكَ أيها الراحل، برغمِ كلّ شيء يشكرك ويدعو لك، وأنت مغادر مع منتصف الليل دع لي شيئاً من الفرح، سأستبقيهِ في قلبي وجيبِي، بعضاً من الأمل سأكمُل به باقي الطريق.
حفلة بكاء
لديّ رغبةٌ في البكاء هذا المسَاء، فأنا منذُ آخر امتحانٍ سيّءٍ لي لم أبكِ بعنف، منذُ آخرِ خيبةٍ لِي لم أبكِ بحُرقة، ومنذُ آخرِ مأتمٍ لِي لم بكِ بحسرة، تلكَ الدّموعُ الّتي كانت كلّ مرّةٍ تحُاولُ الانسكابَ بجرأةٍ على خذّي كنتُ أمنعُها، كنتُ أضعُ أصابعِي وأضغطُ بشدّةٍ على عيني كي لاَ تدمع أبداً.
علّمونا أنّ البُكاءَ للأطفالِ، وأنا منذُ زمنٍ بعيدٍ جدّاً لم أعد طفلَة، لم يعُد بإمكانِي أن أشاركَ صّبيَةَ الحيّ لعبِ الكُرة، ولم يعُد بإمكانِي أن أعبثَ مع صُّحبةِ الدراسةِ خارجَ المدرسة.
كبِرتُ والنّساءُ لا يجبُ أنْ يبكينَ إلاّ ميّتاً، كبرتُ ولم يعدُ بالإمكانِ أن أعُودَ كما كنتُ قبلَ عشرينَ عاماً، علّمونا ألّا نبكِي لأنّ الدّموعَ ضعفٌ، ونحنُ يجبُ ألاّ نضعفَ أبداً، لذلكَ كنّا نخنقُ تلكَ الدّموعَ داخلنا، كنّا نقتُلها حتّى لا تخرُجَ حيّةً إلى الوُجود، كنّا نبتسمُ والدّموعُ تملأُ أعيُننا، ونقُولُ وهيّ تختنق ما بينَ الحلق والصّدر: لاَ شيءَ أبداً نحنُ بخير، ونُواصلُ حياتنا.
والآن بعد كلّ ذلكَ، أشعرُ برّغبةٍ جّامحَةٍ في البُكاء، ولا أريدُ من أحدٍ أن يوقفَ هذهِ الدّموع، لا أريدُ لأحدٍ أن يواسينِي بأيّ شيءٍ كان، فأنا بخيرٍ، لا أريدُ لأحدٍ أن يُفسد حفلتِي. أنا حقاً بخير، لكنّي أردتُ فقطْ أن أحتفل بالبكاء.
خواطر طفلة
كنتُ أكتبُ لكَ حتّى في غيّابِ اسمكَ عنّي، حتّى في عزلتي وعزلتك، كنتُ أغزلُ لكَ من صبرِي وعداً باللّقاء ولستُ بعدُ أعرفك، كنتُ أقرؤُكَ حروفاً في كتبٍ أمرّ بها، فأنسَى أبطالَ الرواياتِ وأذكرك، كنتُ أهمسُ للحلمِ انتظرنِي قليلاً، انتظرنا ريثَما يحينُ مقدَمُك.
كنتُ أصلّي لأجلك وأدعُو لك، كنتُ أرقِيكَ حينَ تضيقُ نفسِي، كأنّ شيئاً يشِي لِي بتعبِك، كنتُ أرقُبكَ معَ النّجومِ قمراً لاَ يأتِي ضوءه إلاّ بنّورِ وجهك، كنتُ أحفظكَ في لسانِي دعوةً، وفي القلبِ والرّوحِ أمنيةً أملكك، كنتَ دفترِي وأقلامِي، كنتَ ألعابِي في طفولتِي وكنتُ في حقيبة مدرستِي أحملك.
كنتَ سهرِي وتعبِي، كنتَ أحلامِي وأمنياتِي، كنتَ طفولتِي الشقية، وكنتُ كما الشّروقِ أرقبُك، كنتَ مراهقتِي العصيّة على الفهمِ، شبابِي التائه هنا وهُناكَ، كنتَ وردِي وزهرِي، وربيعاً بكلّ ألوانِ الطيّفِ أرسمك.
كنتَ صديقِي، كنتَ رفيقِي، في القلبِ تسكنُ دونَ أن أدرِي، كنتَ روحِي والروحُ كانت تسمعك، كنتَ عزفِي الفريد في كونِي، أنفاسِي الّتي لا تخطيء عطرك، كنتَ وجعِي في الحياةْ، كنتَ مرضِي، سهادِي وأرقِي.
وما بينَ الحلم والحلمِ ألمحُك، كنتَ ضحكتِي، وشتيلةً للفرح في حديقةِ قلبِي أغرسك، كنتَ أنا وأنا أبحثُ عنكَ في قدرِي، أين عسايَ أعثر عليك وأجدك؟
كنتَ أنا وأنا أشبهك، ووجهِي في المرآةِ ليسَ وجهِي بل وجهُك، كنتُ وكنتَ وها أنا أناديكَ بأعلَى صوتِي وأطلبك، هلاّ أتيتَ الآن يا حلمَ كلّ الحياةْ؟ يا كلّ المنى والهوى والنوى، أنا ما زلتُ كعهدِي الأول أؤمنُ بك، وأنتظرك، وأنتظرك، وأنتظرك.
أمنيات غريبة
أعِدنِي تلكَ الغريبةَ الّتي لا تعرف، تلكَ الّتي فاجأتها بالحبّ، وهيَ ترتبُّ نفسهاَ للسّباتِ بعدَ أن أحكمت إغلاقَ قلْبها، وسدّت آذانها حتّى لا تسمعَ أيّ نداءٍ يأتيها من أحد، وأرسلت لكلّ المحطّاتِ ألاّ تنتظرينِي فلا موعدَ لِي هناكَ، ولا كراسِي تحملُ اسمِي، لاَ تذاكرَ لِي في تلكَ الرّحلاتِ، ولاَ أحد يجلسُ بانتظار قُدُومِي.
أعدنِي زهرةً نديّةً تأبَى التفتّح إلاّ لتبتلّ بنداكَ الّذي مذْ خبرتهُ، لم يعد يُرويها كلّ ذلكَ المطر المتهاطل، أنا طفلتك، يا ليتَنِي طفلتكَ ليقترنَ اسمِي باسمكَ ما حييتُ من عمر، ولا ينادِينِي أحدٌ إلاّ واسمكَ يرافقنِي بصداهُ، بنغمِ المدّ فيهِ، بتلكَ النشوة الّتي تأتينِي مع عذبِ حروفه.
أنا أميرتك، لم أحلم يوماً بالإمارةِ، لكنّ حلمِي مذ عرفتكَ صارَ أن أتربّعَ على عرشِ قلبك، وينسانِي الحزنُ هناكَ في وجدانك، ولا يتذّكرنِي سوَى الفرح ولونُ عينيك.
ها أنا أكتبك، ولا أملكُ إلاّ أن أفعلَ ذلكَ، علّكَ بالمثلِ تفعل يوماً، وتُعيدنِي تلك الغريبةَ الّتي لا تعرف، تلكَ الحالمةَ بالوفاءِ أملاً مستمرّاً لا ينقطع.
◄ غانية الوناس
▼ موضوعاتي
4 مشاركة منتدى
حفلة بكاء ونصوص أخرى, محمد علي حيدر ـ المغرب | 26 كانون الأول (ديسمبر) 2014 - 11:38 1
نصوص جميلة رائقة تحتاج إلى وقفات متأنية لتكشف عن سحر الجمال فيها، وبديعِ السرد الذي امتطى صهوة الحوار بامتياز، فكان حوارا مع الزمن ارتقى إلى مستوى تخطي المرارة والألم إلى ضفاف الضحك والابتسام باعتبارهما ترياقا للمقهورين الناشدين للسلام، فنحن كما قلت "لا نحتاجُ لأكثرَ من السلامِ لنكونَ بخير"، وكان أيضا حوارا مع الحلم والطفولة والذكريات فمَاهَى (من التماهي) بين الذوات والأحلام... أضف إلى ذلك بلاغة التكرار التي تجلّت أبهى صورها في الضمائر المتصلة والمنفصلة، وكان وكنتُ وكُنْتَ المحيلة على الماضي والذكريات، والأفعال المضارعة التي تقف عند تخوم الحاضر باعتباره امتدادا ونتيجة وتجليا للذكريات والأحلام... لقد أبدعت شعرا وصورا بيانية تأسر القارئ ولا تترك له فرصة تخطي كلمة أو عبارة. لك كل التقدير والاحترام.
1. حفلة بكاء ونصوص أخرى, 30 كانون الأول (ديسمبر) 2014, 12:37, ::::: غانية الوناس/الجزائر
الأستاذ محمد، ربّما لأننا في أعماقنا نؤمنُ بحقيقة أن الحرف لديه وقعٌ كبير في النفسِ والقلبِ، والعقل والروح، لذلك نحاول ما استطعنا أن يكون هذا الحرف هو طريقنا الذي نمشيه بكل ثقة، لنعبر به عن كل شيء نراه يستحق الوقوف عنده.
رائع جداً أن يكون هناك من يتلقى كلماتنا بهذا الشكل الراقي، أسعدني كلامك جداً.
ممتنة على مرورك، اشكرك جداً.تحياتي لك وللمغرب الشقيق.
حفلة بكاء ونصوص أخرى, ايناس ثابت اليمن | 7 كانون الثاني (يناير) 2015 - 17:32 2
عزيزتي غانية.
نصوصك عذبة، شفافة، رقيقة الإحساس.
أحببت الحنان والرقة المبعثرة مابين أحرفكٍ.
لكِ كل المودة والتوفيق دائما.
1. حفلة بكاء ونصوص أخرى, 10 كانون الثاني (يناير) 2015, 11:01, ::::: غانية الوناس.الجزائر
العزيزة إيناس، مروركِ الرقيق أسعدنِي جداً.
لكِ كل الودّ عزيزتي، وكل عامٍ وأنتِ بألف خير.
حفلة بكاء ونصوص أخرى, هدى أبو غنيمة الأردن عمان | 8 كانون الثاني (يناير) 2015 - 21:51 3
أ/غانية بوح جمبل شفاف مندى بدمع القلب ومن قال أن البكاء ضعف ؟وهو حالة إنسانية لكن وددت لو اخترت عنوانا آخر للنص مثلا:قطرات ندى على أوراق عام جديد.كل عام وأنت بخير.
1. حفلة بكاء ونصوص أخرى, 10 كانون الثاني (يناير) 2015, 11:04, ::::: غانية الوناس.الجزائر
الأستاذة العزيزة هدى، هو الطريقةُ المثلى للتعبير، أما البكاء فكما وصفتها حالة إنسانية تعبر عن عمق الإحساس.
أحببتُ العنوان الذي اقترحته.
أشكركِ جداً، وأتمنى لكِ عاماً موفقاً ومزيداً من النجاحِ والتألق.
كل عام وأنتِ بخير.
حفلة بكاء ونصوص أخرى, مهند فوده- مصر | 17 كانون الثاني (يناير) 2015 - 13:15 4
نصوصك رائعة استاذة غانية.. مكتوبة برقة وعذوبة بالغة .. نص حفلة بكاء ..كان صادق ويمس القلب .. كاننا نری مشاعر بطلته تحكي عنها ..وددت لو طبطبت بيدك عليها تخفف عنها حزنها وبكاءها المبتور... سلمت يداك
1. حفلة بكاء ونصوص أخرى, 24 كانون الثاني (يناير) 2015, 10:34, ::::: غانية الوناس/الجزائر
الأستاذ مهند، الحزن قاصٌ جيّد، وبوحه في العادة يجعله لا يبقي في نفسه شيئاً ولا يذر، لذلك يأتي مكتملاً في الغالب، ربّما لكي لايعود إلى ذكره مجدداً.
سعيدة جداً برأيك، يسعدني أن يكون لهذه النصوص هذا الصدى الطيّب في نفوسكم.
شكراً جزسلاً، وتحياتي لك.