عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

د. رانيا كمال علي عبد العال - مصر

فنجان قهوة


رانيا كمالاستيقظت مبكرا هذا الصباح لموعد هام، فوجدتُ الكهرباء مُطفأة والماء مقطوعا، لا أدري لماذا مرتْ في ذاكراتي سريعا ثورات الربيع العربي، ربما لما جلبته من خراب ودمار وما أحدثته من زيادة مستمره في أعداد اللاجئين وما ترتب عليها من انهيار اقتصادي كبير.

لقد سقطنا جميعا في الفخ، ربما كان علينا أن نُجري اختبارا نتبين به الحقيقة، لكن كيف وجميعنا وقتها كنا نستشعر بأنها بصيص نور في هذا الظلام المحدق على العالم العربي بأسره؟

انتبهت فجأه إلى عقارب الساعة فالموعد يقترب ولكني لن استطيع الحصول على أجمل ما في الصباح: فنجان من القهوة أصنعها بيدي والاستمتاع بشربها على أنغام فيروز والجلوس في الشرفة والتمتع بزقزقة العصافير، وكل هذه الأشياء كفيلة بأن تنقل حالي إلى عالم آخر، فهذه الطقوس يدركها كل محبي القهوة أمثالي.

ركبتُ سيارتي، وأنا في الطريق انتبهت إلى وجود مكتبة صغيرة، فنزلت لأصور بعض الأوراق الهامة، وجدت رجلا كبيرا في السن، استقبلني بابتسامة عريضة، فطلبت منه تصوير الأوراق فدعاني إلى الجلوس وعرض علي فنجانا من القهوة، سعدت كثيرا على الرغم من أني لمحت في عينيه حزنا كبيرا، فأنا خبير جدا بمعرفة لغة العيون وما يسكنها من الحزن حتى لو استطاع الشخص إخفاء ذلك.

سألته: منذ متى وأنت تعمل في هذه المكتبة؟ فرد بمراره: منذ فترة طويلة. وبدأ يتحدث عن زبائنه الذين خذلوه بعد فتح المكتبات الكبيرة وقليلون جدا من بقوا على العهد، وحكى لي كيف كان يسافر ليأتي لهم بأرقى البضائع وأرخص الأسعار وكيف كانت المكتبة ملئية بالزبائن، وحتى بعد تعرضه لحادث في إحدى مرات سفره ليجلب لهم ما يريدون.

وبينما هو مسترسل في الحديث، تذكرتُ أنه عندما كان يؤذيني أحد في صغري كان وجهه يظلُ بالنسبة لي رمزا للشر. وعندما كنت أسمع عن أي شخص شرير كان يقفز وجهه في عيني باعتباره رمزا للشر، لكن كبرنا وكثر الأشرار ولم نعد نستطيع أن نختزل كل هؤلاء الأشرار وصورهم في وجه واحد.

ظل يتحدث وأنا أسمعه، كنت أعرف أن هذه اللحظة بالنسبة له من أقسى اللحظات، لأنها من لحظات المكاشفة، إنها صرخةُ الماضي المر عندما تكتشف أنه ضاع على من لا يستحق.

أنهيت فنجان القهوة وأدركت مقوله درويش "لا قهوة تشبه قهوة أخرى" فقهوةُ اليوم مرة جدا كحزن ومرارة إحساس صانعها.

انتهى أخيرا من تصوير الأوراق وسلمني إياها، خرجتُ من عنده وركبت سيارتي وأدرتُ الراديو، فظهر صوت فيروز وهي تغني:

"فكر إني إنسى ،، تسرق النسيان

وأفتكر لاقيتك ،، يرجعلي اللي كان"

وينما أنا في الطريق وجدت طفلا يبيع حلوى وآخرين يأكلون من القمامة، كل هؤلاء خذلهم المجتمع ولم يشفق عليهم بما يليق بإنسانيتهم ولم يعرهم أدنى اهتمام، حينها خطر في رأسي وجه العم عادل صاحب المكتبة، وعرفتُ أن وجهه سيصيرُ بالنسبةِ لي رمزا للخذلان الذي يتعرض له أي أحد، وأخشى ما أخشاه ألا أستطيع أن أحصي الوجوه المخذولة.

D 23 نيسان (أبريل) 2016     A رانيا عبد العال     C 1 تعليقات

1 مشاركة منتدى

  • حقيقي يا رانيا قصه بها العديد من المعاني وبإقتضاب إستطعتي إختزال العديد والعديد من المعاني الإنسانيه .. تحليل راقي ونقد بطريقه جديده ومبتكره وبين السطور يحمل في طياته الوقوف على القيم والنبل .. حبيبتي الحبكه القصصيه أكثر من رائعه .. دمتِ مبدعه دوماً وصاحبة قضيه ورقيقه وغاليه أختي الجميله د. رانيا كمال


في العدد نفسه

كلمة العدد 120: عود الند تكمل 10 أعوام

ريادة شعر الإحياء: بين الأمير عبد القادر والبارودي

محمود سامي البارودي والشعر

شبح الفكرة

أعتذر من غراديفا