عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

زكي شيرخان - السويد

أمل موؤود


زكي شيرخان= أحب أن أكون واضحا معكِ.

سكت هنيهة قبل أن يقول:

= أرجو أن لا تفسري وضوحي بغير ما أقصد. أنتِ خارجة للتو من تجربة قاسية أثرتْ عليك، ودفعت بك إلى حافة الاكتئاب، كما فهمتُ من تلميحاتك خلال الأشهر الماضية التي قضيناها كزملاء منذ انتقالي إلى نفس مكان عملك. باركتُ قرارا اتخذه عقلي، ولا أنكر أن عاطفتي كان لها دورها في القرار. وجدتُ نفسي أمام معاناة إنسان، وأضعفُ ما أكون عليه عندما أواجه مخلوقا يتألم. وددتُ أن أخرجك من أزمتك بأقل الأضرار النفسية. لم يكن في نيتي أن أكون بديلا لمن فقدتِ. لا أجيد دور البديل. أحب أن أمثل دوري الذي أرسمه لنفسي، لا أن أؤدي دور غيري. فوق كل هذا فلست على استعداد لأن أسبب لك ألما بعد حين.

كانت تستمع إليه بدهشة حاولت أن تخفي معالمها ما استطاعت. وحتى يتفادى إحراجها لم يرفع عينيه إلا لماما عن فنجان القهوة الموضوع أمامه. أحيانا كان ينقل بصره بين الأشياء الموضوعة على المنضدة أمامه: علبة سجائره، قداحته، حقيبة يدها، أظافرها. بين الحين والآخر كان يرفع رأسه ليرى نقوش الحزن التي رسمتها على وجهها قسوة فقدان من ظنتْ أن العمر سيستمر معه.

= صدقيني، لم أقصد أن أوقعكِ مستغلا الفراغ العاطفي الذي صار يشغل حيز حياتك. لم أقصد غير أن أكون صديقا بإمكانه أن يقدم ما يمكن؛ أن يكون عونا لعبورك هذه المرحلة بأمان قدر الإمكان.

سكت قليلا. دون أن يفكر فيما لو كان من المناسب أن يطلعها على تجربته أم لا، قال:

= أنا خارج مثلك وللتو من تجربة مماثلة، وبالرغم من جهلي بظروفك إلا أن أسباب ودوافع ما مررتُ به مختلفة. أستطيع أن أقدر حجم الألم الذي تـتجرعين. لا يستطيع أن يعرف معنى الـ "آه" التي يطلقها المتألم إلا الموجوع الذي صرخ بها قبله.

كانت كلماته تطرق رأسها كحبات بَرَد نيساني خشنة.

= استطعتُ بوسائلي أن أجتاز هذه المرحلة، إلا من جروح طفيفة آمل اندمالها مع الأيام. أما الفراغ العاطفي، فأغلب ظني أن لن تستطيع امرأة أن تملأه حتى بعد حين.

سكت مرة أخرى. نظر إلى وجهها. كانت تركز بصرها على سبابتها اليسرى وهي تمسح برفق الياقوتة الحمراء التي تحلي خاتما طوّق بنصرها الأيمن. لم يكن متأكدا من أنها فهمت ما عناه تماما بالرغم من صراحته. لم يكن يريد أن يجرح مشاعرها.

= وحتى تتأكدي من أني سأظل صديقا، فسأعطيك رقم هاتفي. يمكنك أن تـتصلي بي متى شئت إن احتجت لأي شيئ، أو وجدتِ نفسك بحاجة لأن تحدّثي أحدا ما. الحديث أحيانا يُنسي الهموم، ولو مؤقتا.

= شكرا لعرضك السخي.

حاولت أن تفيق من الصدمة التي سببتها جمله المتتابعة بإتقان كأنه يلقي قصيدة حفظها عن ظهر قلب. ثم حاولت أن تستجمع جرأتها وتركيزها الذي تبعثر بين ماض صار في خبر كان وبين مقبل لم تعد تدري ما سيحمله.

= حقيقة، لم أصادف مثل هذه الصراحة في أمر كهذا.

= آسف إن كانت صراحتي قد سببت لك بعض الإحراج.

= الصراحة لا تحتاج إلى اعتذار. بودي أن أسأل...

= تفضلي، سلي ما بدا لك.

= ما الذي دفعك إلى أن تقول ما قلته؟

سكت برهة، فبادرته:

= أأنت هكذا دائما؟ كثيرا ما يطول سكوتك قبل أن تجيب. كأنك تـتهيأ. تنتقي المفردات...

= نعم، أمنح نفسي فرصة التهيؤ للإجابة، لأني أود أن أتـيح الفرصة للمتلقي كي يفهم ما أقول. الكثير من المشاكل بين البشر وكذا الدول سببها سوء الفهم.

سكت ثانية قبل أن يجيبها عن سؤالها:

= من الواضح أن هناك شيئا من الإعجاب المتبادل بيننا. هذا الإعجاب سرعان ما سيتحول إلى نوع من علاقة. أعتقد أنك تفهمين ما أقصد. أنا أرغب أن تكون صداقة ولكن لست أضمن ذلك. خشيتي أن تتحول إلى غير ذلك. ربما سيجد كل منا في الآخر عوضا عما فقده. البديل عن المفقود سرعان ما يصبح عبئا ليس من السهل التخلص منه خاصة إن ترك بصمة مادية، وهذا محتمل جدا. هل سيتحمل أي منا خوض تجربة جديدة ليس بينها وبين القديمة صلة؟

***

عندما طلب منها أن يلتقيا خارج مكان العمل لم يدر بخلدها إلّا أنه سيبدي إعجابه بها، ويمهد لمشوار لها معه. كان جل ما تخشاه أن يكون هذا اللقاء هو أن يستأذنها بالسماح كي يعطف عليها ومواساتها عما أصابها.

عندما حدثها عن تجربته ظنت أنها ستكون أمام خيار أن تقبل أو ترفض علاقة بين رجل وامرأة جمعهما القدر ليعوض كل منهما ما خسره من تجربة سابقة. ولكنهما افترقا وهي أمام عرضين: إما براءة صداقة أو عمق علاقة.

أهو نبيل يريد أن يقف إلى جانبي في محنتي؟ أم تراه عاشقا وجد فيّ عوضا كما وجدتُ فيه العوض منذ اليوم الأول الذي التقيته؟ أم تراه ماكرا ينسج حولي شبكة، منتظرا ساعة أسقط فيها؟ أيهما أنت يا...؟

أسئلة ستظل تـتردد في داخلها.

D 23 نيسان (أبريل) 2016     A زكي شيرخان     C 1 تعليقات

1 مشاركة منتدى

  • أستاذنا العزيز زكي

    تحياتي

    الطرح مثير حقاً للجدل. هل يخاف الانسان من خوض تجارب جديدة قد تحمل له في طياتها السعادة ويفضل التفكير بما مضى من سعادة على قاعدة ليس في الامكان افضل مما كان؟ ومم يهرب؟ ولماذا نعطي الأمل للآخر بحجة النية الحسنة ثم نقول عذرا؟

    لقد تمكنت من طرح مسألة مهمة. إن للقلب لغة لايستطيع العقل فهمها. أنا أشعر أحيانا بأن على الانسان أن يصغي لصوت قلبه أكثرمن عقله، وهي خطوة ممكن أن تكون ذكية ما دام علماء النفس يصرون على أن الذكاء العاطفي من أهم انواع الذكاء.

    ليتنا نطلق الأمل من داخلنا المظلم ونجعله ينطلق حرا. شكرا لك، طرحك واقعي جدا، وجريء من يقدم على الصراحة.

    النهاية ايضاً مفتوحة وغنية بالأفكار المثيرة.


في العدد نفسه

كلمة العدد 120: عود الند تكمل 10 أعوام

ريادة شعر الإحياء: بين الأمير عبد القادر والبارودي

محمود سامي البارودي والشعر

شبح الفكرة

أعتذر من غراديفا