نازك ضمرة - الولايات المتحدة
قراءة في ديوان "البسي شالك..."
قراءة في ديوان "البسي شالك الأخضر وتعالي" للشاعرة بشرى البستاني
من السطور الأولى لقصائد بشرى البستاني في ديوانها الجديد المعنون (البسي شالك الأخضر وتعالي)، نلحظ أمرين مهمين يشغلان بال الشاعرة وبال كل عربي، أولهما اللوعة مما آل إليه واقع الحال العربي، وخاصة في العراق، والثاني يهم كل من عاش على هذه الأرض، سواء من مات منهم أو ما زال حيا، ألا وهو هذا الشعور المرُّ بالفقدان، والنهم الروحي للأمن والحب والاطمئنان في الحياة، وكأن الطمأنينة صارت من الأمور المستحيلة على إنسان هذه المنطقة.
وقبل أن نخوض في بعض التفاصيل التي تقلق شاعرتنا ونصوصها، فلا بد من الإشارة إلى أن عنونة الديوان محفزة للقارئ. وتثير في نفسه أسئلة كثيرة. لماذا قالت بشرى البسي ولم تقل اخلعي؟ ثم لماذا الشال بالذات؟ فهو يغطي الرأس أو الكتفين، وهو خاص بالأنثى، ففي العنوان إشارة أنثوية، كما في الموازيات النصية التي أوردتها الشاعرة بداية الصفحات، وكما في الإهداء الذي قدم العمل هدية لنساء أحرقت كبودهنَّ حروبُ الرجال.
ولماذا كان لون الشال الذي اختارته بشرى أخضر؟ ثم بعد كل هذا، سيكون النداء فاعلية شعرية تهب النص حيوية ونشاطاً في بثّ الخطاب. فعبر قراءة متأنية لنصوص هذا الديوان، يحس المتلقي بأن قصائده مطر ربيعي منهمر من أجواء مختلطة المظاهر والمصادر، ما بين ريح هوجاء ونسيم لطيف ، وحرارة دافئة تلفُّ أجواء السماء، ووجه الأرض ومن عليها من البشر والشجر والحجر.
ويرافق ذلك الجو الناعم الملمس رعود وزخات مطر في بعض المواقع والمواقف، لكن الهيمان يستمر في كل الأحوال، ليسهل للسيول جريانها وتنظيف قنواتها مما ترسب فيها من عذاب ومكابدات، ولترتوي الأرض لتهتز وتربو وتبدي ببوحها ما تختزنه في أعماقها، من زرع ونبت وجذور ومعان.
سيول من كلام لا تصنّع فيه ولا صغارَ من قيود، عبر بوح وجداني تحتال فيه الشاعرة على متلقيها حين تأخذه من حيث لا يدري إلى اشتباكات صورية وإلى تناصات تراثية ودينية وفلسفية وصوفية وسياسية، في بنيات تتباين من قصيدة لأخرى، فمن القصيدة الحوارية إلى الطويلة، إلى المقطعية، ومن قصائد النثر إلى قصيدة التفعيلة بلغة شعرية تتوهج بالصدق والحلم والحزن، مما يجعله يلامس شغاف قلب القارئ، سواء كان في صيغة الشكوى، أو صيغة فرح أو حزن أو هم أو في أيٍّ من الحاجات الإنسانية أخرى:
في الفجر صحا البيت محموما
وراح يعزف على عود أخضر
جاءت الريح فعبرته ولم تتخلله
بكى البيت سرا وراح يختبئ في جذع المنى
بكت الأمنية هاربة إلى حضن النهر
اشتعل النهر بما فيه ووقعت الواقعة
وتسألني، ماذا كنت تفعلين في الصحوة؟ ( ص 12)
وهل لمراقب أن يلوم بشرى على تحرقها في هذه النصوص لأسباب إنسانية عامة وخاصة؟ ألم وحزن يعجز البيان عن وصفه، ثم شعورها بأنها مهزومة مثل شعبها وأمتها، والعرب كلهم يخسرون أرضهم ومياههم وسماءهم يوما بعد يوم، وعاما بعد عام.
حائرة بشرى لا تدري أين المفر ولا اجن سيكون المقر، فالشاعرة تعبر عن الفقد بلسان جمعي، عن الكارثة التي يتهاوى فيها المجتمع العربي، أو ينتظر أن تهوي بهم الأرض إلى مكان سحيق أو يضيق.
هذا الديوان لبشرى البستاني هو إبداع جديد يضاف إلى مخزون الشعر العربي الأصيل، بنماذج طرية حداثية كحسناء تبدل موديلات ملابسها، فالحسناء تبقى جاذبة لكل بصر، ولكنها تبدو باهرة أكثر، كلما ارتدت لباسا جديدا يظهر كنوزها وشخصيتها التي حباها الله لها.
شعر بشرى يثري رصيد الشعر الأنثوي العربي بحداثته وتقنياته وتبنيه قضايا إنسانية وثورية تقدمية، تبدو في طليعتها قضايا النسوية، فهي في هذا الديوان، تجمع الحكمة والفلسفة والتاريخ والسياسة وعلم الإنسان والتحرق للحياة ونضج الشخصية، والقناعة بما تقوله بثقة واقتدار، حتى في البكاء على الماضي والشجر والحجر، بمشاهد قريبة للعقل والفكر لكنها تلامس المشاعر والعاطفة معا، نزف موجَّهٌ للمحرومين والتائهين والمضللين وإشفاء للتائبين.
لطالما قلت إن الشعر هو إشفاء للنفوس، سواء لقائله أو لقارئه أو سامعه، فإن لم يكن الشعر هكذا فهو سرد ورويّ، سواء كان موزونا أو حرا أو نثريا.
الريح تعبث بالكؤوسْ،
وغريبة عيناكِ، تفتح غصن تفاح
وتركن في خلية وردة ظمأى،
وتهمس: يا لهذا الكون من عطش الجذور
أليسَ من نبع هناك، هنا
ليسمع صرخة امرأةٍ
على باب الخليقة تستغيثُ
من يدخل الكون البهيَّ بزهرة الرمان
من يحميه من هذا الدمار؟ (ص 9)
هذا الانسياب المموسق بعفوية وعاطفة دافئة، هو تجلٍ رمزي بكل ما يكتنزه من معانٍ، بتكثيف وحيوية، مشبعة بثراء في اتجاهات متعددة جاذبة، خالقة لنفسها أسلوبية استثنائية شديدة الخصوصية، بصور فنية قريبة منا في غموضها وإفصاحها معا، نستشعرها بسلاسة ونعيشها، فتنقلنا معها إلى المكان والزمان الذي اختارته، كاشفة عن قدرتها على التأثير بنا.
وربما نجيب السؤال عن جدوى الشعر، وطاقته على جذبنا، هذه النصوص الأنثى هي مدرسة حديثة تصور حيوات متخيلة تعشش في أعماق كل امرأة واعية تحب الحياة، وتفهم أسرار السعادة فيها، فتفتح لنا، وبالذات لكل امرأة، أبواب جنات الدنيا ونعيمها، لنزداد علما على يدي شاعرتنا بشرى البستاني المرأة التي تعشق الحياة ، وتحب الإنسان وتنصف المرأة، وتعمل على إسعادها ولو بإشفاء نفسها، فهكذا هو شعر الإشفاء، إشفاء لنفوس المرضى والمحرومين:
بالخلوة سأكون مشغولة بك عنك
وأزرار القميص ما تزال مقفلة
ونائمة في الفتنة البراكين
قلتَ، لا عليكِ
ستفك نفسها بأناملها هي، وسترين
قلتُ كلامك دليلي (ص 19)
هذا الانسياب الحواري الحي، هو نبع صافٍ للتعلم والتفقه والانجذاب نحو حياة فيها حياة، عبر شعر ناعم الملمس، رقيق الحواشي والمنعطفات، متوهج الروح، رهيف أنثوي يضمك بحنو ويحتويك، يمرضك ويشفيك، وتحس بأنك بين يدي طبيبة لكنها موجوعة.
وكل قصيدة في الديوان هي ملحمة، ورواية متعددة المواقف والفصول، حكاية طويلة فصولها تلامس شغاف قلوبنا، وتعيدنا إلى أنفسنا وماضينا وحاضرنا، تجعلنا نعيد الأسئلة في أعماقنا عن أسرار الحياة والسعادة، شعر بشرى يخلق في أعماقنا مواقف حية تصور واقعاً ملموسا وخيالا جامحا يحملك إلى أجوائه، بكلام عذب صادق نابع من القلب مع نبضه والأنفاس.
في القصيدة الثانية من الديوان وعنوانها «في الخلوة أعلمك كل شيء»، فإن الشاعرة وهي تمسك بمصباح علاء الدين، تقودك للدخول إلى عالم الحياة الخاصة بحكاية طويلة متشابكة.
ولكي تسهل عليك الحكاية فإنها تشترط الخلوة، لتمكنك من اكتشاف كنوزها فتحسُّ بأمان ما، حين تلمس خصوصية مطمئنة، وتهيء نفسك لعيش طبيعي يومي، وأنت تدخل الجو المتخيل، حيث يجد المرء نفسه أمام بحر ممتد الأطراف، متلاطم الأمواج، متقلب المزاج تارة، وهادئ يسمح لك بمشاهدة الأسماك الجاذبة الملونة ، وبريق اللؤلؤ والوان المرجان.
كل هذا يجذبك ويحملك إلى كل اتجاه، فتسترخي ويخفُّ الدوار في رأسك وأنت تتعافى من عذابات الهياج والمد والجزر، وتسترخي أحيانا لتجد نفسك حالماً تعيش لحظات حلوة، وذكريات جميلة، وأنت عالق في خيوط النصوص التي تمر أمام ناظريك مر السحاب المتقلب الماطر، فتترطب شفاهك، وأنت تنصت إلى حوارات ساخنة، فينشط لسانك تريد الكلام لكن اللهاث والمتابعة يشغلانك، فلا تجرؤ على النزول من مركب الحلم، على أمل بلوغ الضفة البعيدة، لتنطلق نفسك على سجيتها، وتظل أرواح تتقافز من حولك تتسابق لإكمال الحكاية، وكأنك تشاهد فيلماً من الوقائع والأحداث بكامله، متجمداً في موقعك للإلمام بالحكاية من جميع جوانبها، تستميلك وتضطرك لتتبع مسالك النص والسرد وموسيقى الكلام، فتحزن وتفرح وتسمو وتهيم وتصعد وتنزلق، وتتحرق على ضياع الأمل وكأنك أنت الفاقد والموتور، وبالاختصار تتحرر من المكونات المادية اليومية والمعيقات، لتعيش أيام بشرى ولياليها وغربتها عن جنة حياتها التي تبحث عنها بلا هوادة.
وعند اكتمال القصيدة مسك الختام
علمني، ففي الخلوة سأطيح بركن الترادف
لأعطي التناقض ما فات مني
فاللغة ليست رديفة الوجدان
لقد خانتني، كما خانني الرجال
ما قصة الشاعرة مع اللغة؟ أهي مؤمنة بعجزها عن التعبير عما يشتبك في دواخله؟ ثم ما قصة الرجال معها وهي معهم في حوار ومد وجزر منذ بداية الديوان حتى منتهاه؟ هذا ما يحتاج لبحث آخر يكشف عن المستويات الداخلية للنصوص، وعن مضامينها ومقاصدها معا.
وأخيرا أعود لمعنى تسمية الديوان، ففيه المس أجواء التحريض على الفعل في طلبين متتاليين، البسي، وتعالي، من أجل الاستعداد لرحلة طويلة نجهل نهايتها ، فنحن لا نعرف أين كانت بطلة الرحلة، ولا نعرف إلى أين ستأتي، ولا نعرف من هي أصلا ، فعناصر السرد في لبس مثل كل شعر يحرص على التخفي، ويعتز بتماسك شخصيته. إنه الفن الذي ينسج الحكاية كلها من أجل الرحيل بحثاً عن المستحيل.
= = =
بشرى البستناني. 2014. «البسي شالك الأخـضر وتعالي». عـمّـان: دار فضاءات.
الموضوع أعلاه من مواد العدد 102 (12/2014).
◄ نازك ضمرة
▼ موضوعاتي