الصفحة الأخيرة - د. عدلي الهواري
رفائيل ليمكن يعرّف الإبادة العرقية في عام 1944
كتاب حكم المحور في أوروبا المحتلة
من المعروف عن اللغة الإنجليزية وجود مقاطع تضاف قبل أو بعد كلمة لإعطائها معنى جديدا. من هذه الإضافات سايد (cide)، التي تعني قتل. ونجدها في كلمات مثل سُوِيسايد (suicide) أي الانتحار، وهوموسايد (homoscide) أي جريمة قتل إنسان.
المحامي البولندي اليهودي، رافائيل ليمكن (Raphael Lemkin)، استخدم هذا المقطع لابتكار مصطلح جديد هو جينوسايد (genocide)، أي قتل فئة عرقية من البشر. يقول ليمكن في كتابه "حكم المحور(1) في أوروبا المحتلة: قوانين الاحتلال. تحليل الحكومة. مقترحات للإنصاف" (1944): "إن المفاهيم الجديدة تتطلب مصطلحات جديدة. نعني بـ"جينوسايد" تدمير أمة أو جماعة عرقية" (ص 79). وأشار في كتابه إلى أن كلمة أخرى تحمل المعنى نفسه هي "اثنوسايد" (ethnocide). لكن جينوسايد هي الشائعة الآن (ص 79)، والترجمة العربية المعتمدة والمتداولة هي الإبادة الجماعية. لكني سأخالف المتداول وأستخدم في هذه المقالة مصطلح "الإبادة العرقية".
ينسب لليمكن أكثر من مجرد ابتكار مصطلح، فهو سعى أيضا إلى جعل الإبادة العرقية جريمة وفق القانون الدولي. وقد تبنت الأمم المتحدة في 9 كانون الأول (ديسمبر) 1948 اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، التي أصبحت سارية المفعول ابتداء من 12 كانون الثاني (يناير) 1951.
في كانون الثاني (يناير) 2024، وافقت محكمة العدل الدولية على النظر في القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا، والتي اتهمت فيها إسرائيل بارتكاب الإبادة العرقية في قطاع غزة.
عندما تكون قضية ما قيد المقاضاة، درجت العادة على امتناع المسؤولين عن التعليق عليها إلى أن يقول القضاء كلمته. إلا أن السياسيين والإعلاميين في الغرب واصلوا عدم الاكتراث بوجود قضية لدى المحكمة، وتواصلت التصريحات التي ترفض اعتبار ما يجري في غزة إبادة عرقية مستندين إلى ذرائع مختلفة.
لا يجوز إنسانيا أولا أن يكون رقم معين من الضحايا هو الحد الفاصل بين تعريف عملية قتل جماعي بأنها إبادة عرقية أم لا، ففقدان حياة إنسان واحد يؤسف عليها. لذا، بصرف النظر عن المسمى، لا ضمير يجب أن يشعر بالراحة لأن عدد القتلى لم يصل الحد الذي يقنعه أن ما يجري هو إبادة عرقية. ثانيا، عندما يكون هناك اتفاقية دولية لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، لا يجوز للدول أن تتجاهل هذه الاتفاقية وتعتبر إعلان دولة أنها ستنفذ إبادة عرقية في قطاع غزة ضربا من ضروب حق دولة في الدفاع عن نفسها.
كذلك، لا يجوز من الناحية الإنسانية والأخلاقية التشكيك في أرقام الضحايا التي يعلنها المتعرّضون للإبادة العرقية عندما تكون الأدلة وفيرة ودامغة على صحتها، وخاصة أن القتل في غزة معزز بالصور والفيديوهات، ليس ممن يتعرضون للإبادة، بل ومن الأفراد المشاركين في تنفيذها.
ونظرا لأن الإبادة العرقية كمصطلح، وتحولها إلى جريمة وفق القانون الدولي، ينسبا إلى ليمكن، فمن البديهي أن يعود الباحث إلى ما كتبه ليمكن عن الموضوع. ومن يفعل ذلك سيجد في كتابه المذكور أعلاه فصلا يوضح تعريفه للإبادة العرقية (ص ص 79-95). أوجز أدناه أبرز النقاط التي وردت في هذا الفصل.
يشرح ليمكن باستطراد أن الإبادة العرقية ليست مرتبطة بعدد من يقتلون مباشرة وحسب، فيقول: "إذا تحدثنا بشكل عام، لا تعني الإبادة العرقية بالضرورة القضاء الفوري على أمة ما، إلا إذا تم ذلك من خلال عمليات قتل جماعي لكل أفراد الأمة. بتعبير أدق، الإبادة العرقية يدل عليها وجود خطة منسقة تشمل مجموعة مختلفة من الأفعال التي تهدف إلى القضاء على الأسس الجوهرية لحياة الجماعات الوطنية. تتضمن أهداف الخطة تفكيك المؤسسات السياسية والاجتماعية، والثقافة، واللغة، والمشاعر الوطنية، والدين، والوجود الاقتصادي للجماعات القومية. ويضاف إلى ذلك، القضاء على الأمن الشخصي، والحرية، والصحة، والكرامة، وحياة المنتمين إلى هذه الجماعات. ومع أن الأفعال المرتبطة بالإبادة العرقية تستهدف الأفراد، إلا أن الاستهداف راجع إلى انتمائهم إلى الجماعة الوطنية المستهدفة" (ص 79).
ويستعرض ليمكن تطور الحروب من الإبادة العرقية إلى حصرها بين الدول والجيوش التابعة لها، فيقول: "الإبادة العرقية نقيض مبدأ روسو-بورتاليس،(2) الذي يعد واردا ضمنيا في لوائح لاهاي(3). تعتبر الحرب وفق هذا المبدأ حربا تستهدف الحكّام والجيوش، وليس ضد الرعايا والمدنيين. التطبيق المعاصر للمبدأ يعني شن الحرب على الدول والجيوش وليس على السكان" (ص 80).
ويشير ليمكن إلى أن ألمانيا النازية عادت أثناء الحرب العالمية الثانية إلى ممارسة الإبادة العرقية، فهي لم تكتف بشن الحروب على الدول وجيوشها، بل استهدفت السكان أيضا، ووضعت الآتي منطلقا لذلك:
"الدول العدوة الواقعة تحت سيطرة ألمانيا يجب أن تُدمّر، وتفكك، أو تُضعف بدرجات مختلفة لعقود قادمة. ولذا سيكون الشعب الألماني في فترة ما بعد الحرب في موقع يمكّنه من التعامل مع الشعوب الأوروبية الأخرى على أساس التفوق البيولوجي" (ص 81).
يخصص ليمكن جزءا كبيرا من الفصل المتعلق بالإبادة العرقية للحديث عن أساليب تنفيذه في المجالات المختلفة التي تشمل الجوانب السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والبيولوجية والجسدية والدينية والأخلاقية (ص ص 82-90). وسأقتطف فيما يلي بعض ما ذكره ليمكن في كل مجال من هذه المجالات.
الجانب السياسي
دمرت ألمانيا المؤسسات المحلية للحكم الذاتي في المناطق التي ضمتها في غرب بولندا، ويوبين، ومالميدي وموريسنت، وفرضت في هذه المناطق إدارة ذات أنماط ألمانية. وكل ما يٌذكّر بالشخصية الوطنية السابقة تم محوه. حتى اليافطات التجارية والنقوش على المباني، واللافتات على الطرق والشوارع، إضافة إلى أسماء المناطق والأحياء تم تغييرها إلى نمط ألماني [12] (ص 82).
الجانب الاجتماعي
يتحقق القضاء على النمط الوطني في المجال الاجتماعي من خلال إلغاء القوانين والمحاكم المحلية وفرض القوانين والمحاكم الألمانية، وألمنة [أي جعل الشيء ألمانيا] لغة القضاء والمحاماة"[18] (ص 83).
الجانب الثقافي
لمنع التعبير عن الروح الوطنية من خلال الوسائط الفنية، تم تطبيق سيطرة شديدة على كل النشاطات الثقافية. كل المنخرطين في رسم اللوحات، والرسم، والنحت، والموسيقى، والأدب، والمسرح طُلب منهم الحصول على ترخيص لمواصلة نشاطاتهم. ومورست السيطرة على هذه النشاطات من خلال السلطات الألمانية (ص 84).
الجانب الاقتصادي
يؤدي تدمير أسس الوجود الاقتصادي لجماعة وطنية إلى شل تطورها، بل وتراجعه. ويؤدي خفض مستويات المعيشة إلى صعوبات في تلبية المتطلبات الثقافية-الروحية. يضاف إلى ذلك، أن الصراع اليومي من أجل الحصول على الخبز والبقاء جسديا قد يؤدي إلى إعاقة التفكير على الصعيدين العام والوطني (ص 85).
الجانب البيولوجي
طبّقت ألمانيا في الدول التي احتلتها والتي يعيش فيها "أناس من دم ليس ألمانيا" سياسة تفريغها من السكان. من أهم الطرق لتحقيق هذا الهدف خفض نسبة الولادة بين الجماعات الوطنية ذات الدم المختلف. واتخذت ألمانيا في الوقت نفسه خطوات لتشجيع زيادة نسبة الولادة بين ذوي الأصول الألمانية الذين يعيشون في هذا الأقطار (ص 86).
الجانب الجسدي
استخدمت ألمانيا الطرق التالية لإنهاك الجماعات الوطنية، بل وحتى الإجهاز عليها، في الدول التي احتلتها:
1. التمييز العرقي في التغذية: وأخذ ذلك شكل تنظيم توزيع الحصص التموينية على أسس عرقية في جميع أنحاء الدول المحتلة (ص 87).
2. تعريض الصحة للخطر: حُرمت الجماعات الوطنية غير المرغوب فيها، وخاصة في بولندا، من الضروريات اللازمة للحفاظ على الصحة والحياة. شمل ذلك، على سبيل المثال، مصادرة الملابس الدافئة والأغطية في الشتاء، والامتناع عن تقديم الحطب والأدوية (ص 88).
3. القتل الجماعي: استُخدم هذا الأسلوب بشكل رئيسي ضد البولنديين، والروس، واليهود، والشخصيات البارزة في الجماعات التي لم تتعاون مع ألمانيا في الدول التي احتلتها (ص 88).
الجانب الديني
حاول الاحتلال الألماني تعطيل التأثيرات الوطنية والدينية في لوكسمبورج، حيث أغلبية السكان تدين بالمسيحية الكاثوليكية، ويلعب الدين فيها دورا مهما في الحياة الوطنية، وخاصة في مجال التعليم (ص89).
الجانب الأخلاقي
يسعى الاحتلال إلى إضعاف المقاومة الروحية لدى الجماعة الوطنية من خلال تهيئة أجواء انحلال أخلاقي في أوساطها. تهدف هذه الخطة إلى جعل الطاقة الذهنية لهذه الجماعة تتركز على الغرائز الدنيئة، وإبعادها عن التفكير الأخلاقي والوطني. لتحقيق هذه الغاية من الخطة، تحل الرغبة في المتعة الشخصية الرخيصة محل المشاعر الجماعية والمثل القائمة على الأخلاق السامية. في بولندا سعى الاحتلال الألماني إلى فرض المجلات والأفلام الإباحية على البولنديين، وشجع استهلاك المشروبات الكحولية، فقد أبقى على أسعارها منخفضة رغم ارتفاع أسعار المواد الغذائية (ص ص 89-90).
توصيات ليمكن بالنسبة للمستقبل
يدافع ليمكن عن مفهوم الأمة، ويعدد الفوائد التي يجنيها العالم من الأمم، فيقول: "يدل مفهوم الأمة على التعاون البنّاء والمساهمات الأصيلة المستندة إلى تقاليد وثقافة أصيلة، ونفسية وطنية متطورة جيداً. لذلك، فإن تدمير أمة يؤدي إلى فقدان مساهماتها المستقبلية في العالم. إضافة إلى ذلك، فإن هذا التدمير يؤذي مشاعرنا المرتبطة بالأخلاق والعدالة مثلما تفعل جريمة قتل إنسان. الجريمة في الحالتين جريمة قتل، ولكن على نطاق أوسع بكثير في حالة الإبادة العرقية. ومن الملامح الأساسية التي ميّزت تقدم الحضارة احترامُ وتقديرُ السمات الوطنية، وخصال الأمم المختلفة. وكما يتضح من المساهمات التي قدمتها الدول الضعيفة دفاعيا، والفقيرة من حيث الموارد الاقتصادية، لا تقاس المساهمات بميزان قوة وثروة أمة (ص 91).
يمثّل ما كتبه ليمكن في الفصل المشار إليه أعلاه خير رد على عديمي الضمير والأمانة الفكرية والأخلاقية من سياسيين وإعلاميين. كل محاولات اعتبار الهولوكوست شيئا آخر، والتقليل من عدد ضحاياه، لطخت من فعل ذلك بالعار. والمحاولات الكثيفة الواسعة الانتشار لاعتبار ما يجري في غزة أمرا لا يمكن وصفه بأنه إبادة عرقية، أو التقليل من عدد الضحايا، لا تختلف عن تلك المتعلقة بالهولوكوست، وهي ستعود على من يقوم بها بالعار أيضا، عاجلا أو آجلا.
= = =
الهوامش
(أ) ملاحظات كاتب المقالة ومترجم المقتطفات من الكتاب:
(1) الحرب العالمية الثانية (1939-1945) كانت بين دول متحالفة ضمن مجموعتين. الأولى عرفت بالمحور، وهي تضم ألمانيا وإيطاليا واليابان، بالتعاون مع دول أخرى. المجموعة الثانية عرفت بالحلفاء وضمت بريطانيا والولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، بالتعاون مع دول أخرى.
(2) الفيلسوف الفرنسي، جان جاك روسو، ذكر في كتابه "العقد الاجتماعي" (1762) أن الحرب نزاع بين دول، ودعا إلى حماية المدنيين أثناء الحروب. جان اتيين-ماري بورتاليس: قانوني وسياسي فرنسي (1746-1807) دعا إلى معاملة غير المقاتلين معاملة إنسانية أثناء الحروب. أحكام لاهاي (1907) تحدد ما هو جائز وغير جائز أثناء الحرب، وتهدف إلى حماية المدنيين والممتلكات ومعاملة الأسرى معاملة إنسانية.
(3) أحكام لاهاي (1907) تحدد ما هو جائز وغير جائز أثناء الحرب، وتهدف إلى حماية المدنيين والممتلكات ومعاملة الأسرى معاملة إنسانية.
(ب) هوامش في متن كتاب رفائيل ليمكن:
[12] بالنسبة إلى لوكسمبورغ، انظر/ي الأمر الصادر في 6 آب (أغسطس) 1940، أدناه، ص 440.
[18] انظر/ي أعلاه الفصول المتعلقة بالقانون والمحاكم.
(ج) التوثيق الببليوغرافي لكتاب ليمكن:
Lemkin, Raphael. Axis Rule in occupied Europe: Laws of Occupation. Analysis of Government. Proposals for Redress. Washington: Carnegie Endowment for International Peace, Division of International Law, 1944.
◄ عدلي الهواري: بحوث ومقالات وقصص
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ ترجمات أخرى
- ◄ عرض كتاب
- ◄ فكر وسياسة: مقالات
- ● رفائيل ليمكن يعرّف الإبادة العرقية في عام 1944
- ● أزمة النفوذ المزمنة، والتقويض الفعّال، في المنطقة العربيّة: بحثٌ نظريّ لممارسة سياسيّة ممكنة
- ● أزمة النفوذ المزمنة، والتقويض الفعّال، في المنطقة العربيّة: بحثٌ نظريّ لممارسة سياسيّة ممكنة
- ● أنتَ في الهناك، وأنا كذلك
- ● التباس الديمقراطية والثورة وأصابع الحبر الداكن