عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

آمال سلامة - الأردن

عبقري هذا الزمان


أخرج رأسه من حاوية النفايات ويداه تمسكان علبا معدنية فارغة لمشروبات غازية. وضعها في كيس كان بجانب الحاوية، ثم حمل الكيس على ظهره ومضى في طريقه مستندا إلى عصا قصيرة وكأنها عصا مكنسة مكسورة أو شيء من هذا القبيل.

الطريق ما زالت طويلة حتى أصل البيت، وبالتأكيد سأملأ هذا الكيس قبل وصولي. يجب أن أسلمه لأبي هاني، جاري الذي يبيع كل شيء. أعرفه منذ مدة طويلة: إنسان طماع، بخيل، يستغل حاجة الناس. تصوروا أنا أتعب طوال النهار في جمع العلب والنفايات وأسلمها له وهو يعطيني فتات مربحه من بيعها. على كل حال، الناس جمعيهم كذلك هذه الأيام. هذه حاوية كبيرة، سأجد فيها أشياء كثيرة. اقترب منها. وضع كيسه على الأرض وبدأ يبحث.

"ابتعد من هنا يا ابن ..."

كان يسمع الصوت دون رؤية صاحبه.

"أريد أخذ العلب الفارغة."

"أعرف ما تريد، لذلك قلت لك ابتعد. هذه منطقتي ولا أحد يأخذ نفاياتها غيري."

"ومن ملّكك هذه المنطقة؟ سآخذ ما أريد ولن تمنعني."

"لن أمنعك؟ سترى."

رآه أمامه، ضخما قويا يافعا. حمل كيسه ومضى.

أنا كبير السن، ضعيف الجسد، لن أقدر على مواجهته، ولكني حكيم فمن الحكمة أن تعترف بقدراتك الحقيقة والتصرف وفقها. لا يهم، سأجد حاوية أخرى. ولكن متى بدأت الحاويات تصبح ملكا للمشردين؟

أمام أحد المحلات وقف وقال:

"السلام عليكم."

"وعليكم السلام." رد صاحب المحل ببرود شديد.

"كيف الحال؟ أرى أنك ما زلت تعمل في المحل."

"وأين تريدني أن أكون؟ هذا عملي حتى نهاية حياتي."

يدخل فتى صغير يعمل لدى صاحب المحل يحمل بين يديه صينية فيها طعام الغذاء.

"يا الله! أترى يا أبو العبد؟ لي نصيب أن أتناول طعام الغذاء معك اليوم."

"وبالأمس عند أي تاجر في السوق تغذيت؟"

تجاهل السؤال وبدأ يأكل بنهم شديد دون أن يدعوه أحد وحتى قبل أن يبدأ صاحب الطعام بالأكل. كان يشعر بنظرات صاحب المحل المستنكرة المشمئزة. لم يكترث لها وتابع طعامه. كل الناس يوجهون إليه هذه النظرات، وهو يعرف تماما سبب ذلك، ثيابه القذرة، ورائحته النتنة.

ترى منذ متى لم تستحم يا صبري؟ آه، تذكرت، قبل ستة أشهر كنت في بيت ابني. تغذيت وأمضيت بقية النهار. عندما أردت النوم، سمعت زوجته تقول له:

"لن ينام أبوك هنا وهو بهذه القذارة، قل له أن يستحم، فِراش أولادي نظيف، وإلاّ يغادر المنزل لا أريد وجوده."

"اخفضي صوتك يا امرأة، لا أريد أن يسمعنا."

"فليسمع، وأنا سأخرج لقول ذلك له."

أجل، يومها استحممت ونمت، ثم عدت إلى منزلي في اليوم التالي. لماذا يستحم الناس دائما؟ هذا هدر للماء وإسراف.

أنهى طعامه. مسح فمه بطرف قميصه الذي لا يعرف له لون. شكر صاحب الطعام وخرج. أثناء خروجه أصيب بسعال مفاجئ مزعج. توقف السعال وبصق ما في فمه من بلغم على الأرض ومضى.

إنه الدخان، لو لم أكن أدخن لكنت الآن وأنا عمري ثمانون بقوة شاب في الأربعين، ولكنه الدخان، يجب أن أتركه، بل سأتركه، لن أدخن بعد اليوم.

عند أبي هاني أفرغ كيسه على طاولة في المحل، ودار جدال بينهما حول المبلغ المدفوع. انتهى الجدال بأن زاد أبو هاني المبلغ المدفوع، أخذه صبري قائلا له:

"كان من الأول، صحيح ناس تخاف ما تختشيش."

وصلت إلى أذنيه شتائم أبي هاني لكنه لم يأبه لها ومضى.

لفة، لفتان، ثلاث. السلسلة الحديدية طويلة، وهذا أكثر أمنا كي لا يدخل اللصوص، فالقفل العادي لا يكفي.

دخل منزله يشتم ويلعن الزمن والأيام فهما السبب في وحدته وحاله. علقت رجله في مصيدة للفئران على الأرض. كاد يقع، مما جعله أكثر غضبا وعصبية. حقا لقد عرض عليه ابنه أن يسكن معه، بعد أن شكا له سوء حاله وتهديد صاحب البيت بطرده. قال له ابنه:

"أولادي الستة يملؤون عليك البيت، وزوجتي تنظفه، وتطبخ للجميع."

جن جنون الأب ورفض بشكل قاطع حتى لو نام ابنه وأولاد ابنه في الشارع.

"هذا بيتي. لن أجعلكم تستولون عليه."

ارتسمت ابتسامة كبيرة على وجهه وهو يخرج صندوق صفيح يخفيه داخل كراج بيته حيث كانت سيارته تقف في السنوات الماضية. كانت فكرة جميلة إيجاد باب داخلي من الكراج إلى المنزل،

آه يا صبري، طول عمرك بتفهم. بس ما حدا بقدر شطارتك وذكاءك.

وضع ما معه من مال داخل الصندوق، وأعاد إحصاء المبلغ للمرة الثانية.

لقد أصبح ... لا، لا تقل. لا بحسد المال إلا صاحبه. سأرفع لهم غدا أجرة الطابق الأسفل الذي تسكنه أم محمد الأرملة وأولادها الخمسة، وأجرة الدكان من أبي أسعد. عندما لم أعد قادرا على العمل أجّرته، فأستفيد من ذلك بدلا من إغلاقه. أنت عبقريّ يا صبري. لماذا لم يكن واحد من أبنائك الستة مثلك؟ أولاد الكلب، ولا واحد منهم يفهم. أمهم: نعم، أمهم السبب.

تذكر أنها ماتت قبل سنوات. قالوا يومها: "مسكينة ما شافت يوم حلو بحياتها. عاشت وماتت مقهورة." كان يعرف قصدهم، ويفهم ما يقولون ولكنه لا يهتز لشيء. صوت طرق الباب جعله يعيد الكنز بسرعة إلى مكانه ثم يذهب لفتح الباب.

"أبي، إنها زوجتي مريضة جدا، والمستشفى يريد مبلغا من المال كتأمين."

"ومن أين لي هذا المبلغ؟ أنا عجوز عاطل عن العمل. لقد أخذتم كل شيء وضيّعتم كل شيء. لا مال لدي. أخوك رفض إعطائي نصف دينار كي أركب الحافلة. أتيت من عنده إلى المنزل مشيا. أنا العجوز أقطع هذه المسافة الطويلة على أقدامي."

خرج الابن وهو يذكر تركه المدرسة وعمله مع والده منذ الصغر، وتعبه دون أن يحصل حتى على حياة كريمة. أما الأب فعاد لإخراج صندوقه. النصف دينار الذي أخذه من ابنه كان قد نسيه في جيب آخر غير ذلك الجيب الذي وضع في نقود أبي هاني.

سأعد المال مرة أخرى. أشعل سيجارة، وأخرج الرزم من الصندوق. هذا ألف، ألفان، ثلاثة ... سأعيد العد مرة أخرى.

D 1 كانون الأول (ديسمبر) 2006     A آمال سلامة     C 0 تعليقات