عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

ربى عنبتاوي- فلسطين

يوم أرض بنكهة خاصة


يطمح أن يزور العالم. ولأن اليد قصيرة والعين بصيرة، فهو لا يملك ثمن تذكرة سفر أو إقامة. ينتظر إعلانا في جريدة عن مؤتمر أو دورة ما ذات صلة بمجال دراسته، تجعله يقيم في فندق ويزور بلدانا ويلتقي شعوبا. يعني بالعربي "بغير جو وبشم هوا."

كان محظوظا بأن حضر مؤتمرين ودورة صيفية في بلد مجاور. صحيح أن البلد ليس برائع الجمال، إلا انه بلد بلا حواجز أو جدران أو جسم غريب يشعرك دوماً أن الخيام تنتظرك لأنك حسب مفهوم واضعيها أقل من إنسان.

في ظهر يوم مشمس كان عطلة نهاية الأسبوع، أعطاه جاره الجريدة، أو ربما تصدق عليه بها. من يدري؟ تصفحها على فنجان قهوة بارد وقطعة بسكويت، فقد نفد لديه الغاز وهو يسّخن الماء. وكذلك نفد بسكويته المفضل. السبب هو أنه من الطبقة الكادحة، وأجرة البيت تخصم ثلاثة أرباع مرتبه البسيط، فلا يبقى إلا الفتات الذي لا يجلب إلا مثله. قضم جزءا من البسكويتة وقلب شفتيه ناقما، فقد كانت رطبة.

لفت نظره إعلان بالإنجليزية. قرأه. قرأه مرة أخرى: "ورشة عمل في ثلاث دول أوروبية."

"يا إلهي! ماذا لو حالفني الحظ؟ سأرى الدنيا. سأرى وجه الله."

قفز من مقعده وأخذ يدور حول الطاولة عدة مرات، أمر يفعله كلما انهال عليه التفكير.

في صباح اليوم التالي اتصل بالجهة المعلنة. أرسل سيرته الذاتية، وانتظر الرّد. كان مستعدا لأن يأخذ إجازات بلا مرتب ليرى العالم. صحيح أنه كان يرى خارج مخيمه البائس الشجر والأرض والناس، إلا أن والديه لم يعرفا ثقافة السفر، أو الموسيقى أو الرحلات الترفيهية، فقط العمل في البيت وخارجه ومتابعة الأخبار وانتظار الحل العادل للقضية، ما جعله متمردا من وجهة نظرهما وطمّاعا. وحين غادرا الحياة بكى كثيرا، لأنه تمنى لو زارا البلد المجاور الذي زاره قبل عام، لو عاشا حياتهما قليلا.

ذكريات كانت تمر على مرأى من عينيه كل يوم، وخاصة أثناء ساعات الانتظار على الحاجز. فجأة رنّ هاتفه الخلوي وهو يقف تحت المطر.

"لقد اخترناك مبدئيا للورشة ونريد مقابلتك اليوم،" قال أحد ما من المؤسسة.

غمره شعور عظيم. فكّر: "إن عبرت الحاجز فسأواجه صعوبة في العودة وسأتأخر عن المقابلة." انسحب من مكانه، وعاد أدراجه والسماء تهب الأرض المطر بغزارة.

اتجه إلى أقرب مقهى في المدينة. معطفه الجلدي يقطر ماء. طلب فنجان قهوة. فتح محفظته ليطمئن أن هناك بقية للعودة. ساعتان يتأمل خلالهما شلال الماء على الزجاج، وأخيلة المشاة المهرولة.

حان موعد الذهاب إلى المؤسسة. الساعة الرابعة إلا عشر دقائق. احتاج ساعتين ليجفّ، وأمامه عشر دقائق ليبتل مجددا.

وصل المؤسسة. دخل غرفة اللجنة. جلس قبالة ثلاثة رجال متأنقين. سألوه أسئلة تقليدية، ولكن حين جاء ذلك السؤال، أحس بتدفق اللعاب بغزارة من بين ثنايا لسانه. صمت. لم يجب لدقيقة.

كرر أحدهم السؤال: "هل لديك مشكلة؟"

أجاب: "نعم. لا. لا. أنا مع التعايش."

حقّر نفسه ألف مرة في طريق العودة. كم هو جبان وبلا قيم! لكنه أعطى كلمته وغادر مسرعا.

اقترب من ذاك الحاجز. أناس محتشدون بالمئات. المشهد قاتم. معاطف باهتة ومطر يحمل في جوفه حبات برد غاضبة. حاول أن يختبئ تحت مظلة قريبة إلا أن جزءا كبيرا من الناس يقفون بلا مظلات تحت سقف السماء، فكيف سينجو هو من "البهدلة"؟ صعب جدا.

حاول أن يخفّف عن نفسه. يتخيل أوروبا بطبيعتها وجنانها وحضارتها، لكن التجربة هذه تؤرقه بحد ذاتها: أسيشاركهم المأكل والمشرب والحديث؟ أسيضحك معهم ويضحكون معه؟

شعر بحالة قرف. أغمض عينيه. لا يريد أن يرى بشاعة الاحتلال. طرق على ظهره جعله يفتح عينية ويستدير للوراء. سيدة ضريرة، تطلب اللجوء إلى داخل الحاجز، أضاعت عصاها وتبحث عن مخرج.

ساعدها وأخذ بيدها وحاول أن يقحمها بين الناس. هل هو استغل حاجتها فدخل معها؟ أصبح مضطربا يشكك في نفسه وفي كل شيء. استطاع معها أن يصل إلى مقدمة الحاجز. الناس "النخوتلية" أصحاب النخوة أبوا أن يتركاهما إلا وهم في المقدمة.

أعطى بطاقة هويته للجندي ذي النظرات الغاضبة. قال له: "أعبر." بقي ينتظرها. "سآخذها حيث تسكن،" قال في نفسه.

سألها الجندي عن البطاقة. أجابت أنها لا تملك، وهي تمر دائما بلا بطاقة. قال الجندي متهكما:

"إذن أنت "في آي بي" (*). اعتذر لم أكن اعرف." وأكمل: "ارجعي من حيث أتيت. ممنوع المرور بلا بطاقة."

قال بغضب: "إنها ضريرة، ألا ترى؟ ثم إنها قريبتي."

أجاب الجندي: "لا يعنيك، انصرف."

لم ينصرف. بقي واقفا يريد أن يتحدث لكنه لا يتقن لغة الجنود.

نادى على المرأة الضريرة: "انتظري سأعود معك." لم تسمعه.

قالت وفي صوتها شهقات حزن: "يا ولاد الكلب، وين أروح؟ وين أروح."

سالت منه دموع وامتزجت مع ماء المطر، إلا أن الأولى كانت حارة جدا جدا.

في اليوم التالي، بعد ليلة من الاضطرابات والكوابيس، كتب رسالة وقرر أن يسلمها للمؤسسة شخصيا. زار مقرها. كانا اثنين. رحبا به. أعطاهما رسالة. تحولت ابتسامة أحدهما إلى اندهاش. حينها أدار هو ظهره وخرج سريعا.

لم يعتد أن يشتم أحدا بشكل مباشر، لكنه فعل في الرسالة. شتم مؤسساتهم الغريبة عن شعبها، والجهات المانحة، والضمائر الغائبة.

وهو يسير، ظل يردّد الجملة التي كتبها في ختام الرسالة:

"يتمنون لنا الخيام، هذا إن تفاءلنا جدا، ونحن نمّثل معهم مسرحية السلام."

عاد إلى شقته ولم يشعر براحة بال مثل ذلك اليوم. كأنه نبيّ يوم سلّم الرسالة. بعدها بيومين اعتصم مع الشعب في يوم الأرض، يوم لم يعهده من قبل، يوم ليس كباقي الأيام.


(*): الأحرف الأولى لثلاث كلمات انجليزية تعني: شخص مهم جدا.

Very Important Person: VIP

D 1 نيسان (أبريل) 2007     A ربى عنبتاوي     C 0 تعليقات